قمة الرياض: لا عزلة للمرأة بعد اليوم

TT

أتيحت الفرصة لرئيسة الدورة 61 للجمعية العامة للأمم المتحدة الشيخة هيا آل خليفة لتلقي كلمتها في افتتاحية القمة العربية الـ 19 في السعودية ولأول مرة، في لفتة تؤكد مدى الاعتراف بمكانة المرأة العربية، الأمر الذي لم يفت السيدة هيا إيراده في خطابها، وخاصة حين توجهت بحديثها إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز تقديراً لدعمه الأبوي والمترجم للمرأة. إنها إضافة ولا شك تحسب للمرأة ولكل صوت يؤيد إثبات كينونتها كفرد منتج في المجتمع، وليس مجرد عدد يأتي إلى الدنيا ويرحل عنها فلا نعلم بوجوده إلا على صفحات النعي بالصحف، هذا إذا ذكر اسم المتوفاة ولم يكتف بالإشارة إليها بأم فلان أو زوجة علان، أما نقطة الخلاف الرئيسية التي ندور حولها فتتمحور في أحقية إعلاء صوت المرأة، وعملها خارج بيتها، ونوعيته، وللإجابة نقول إن الإسلام ومنذ العصور الأولى له لم يمنع النساء من العمل خارج محيط البيت، ولم ينكر عليهن ذلك حين فعلن، فهذا الصحابي الفاضل جابر بن عبد الله يقول: طُلِّقت خالتي، فأرادت أن تجدّ نخلها (تقطع ثماره) فزجرها رجل أن تخرج ـ لأنها في العدة ـ فأتت النبي عليه الصلاة والسلام فقال لها: «بلى، فجذّي نخلك، فإنك عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفاً»، وهذه سمراء بنت نُهيك الأسَدية من أدركت نبينا عليه الصلاة والسلام، تمر في الأسواق فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتضرب الناس على ذلك بسوط كان معها، فلا تمنع ولا تزجر، ثم، ماذا عن الشفاء بنت عبد الله العدوية التي كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يقدمها في الرأي فيفضلها حتى ولاّها أمر السوق! فإذا استوعبنا ما تعنيه كلمة الأسواق التي فيها مجامع الرجال والتي سمح للمرأة وقتذاك بالمشي في طرقاتها والاختلاط بأهلها لما أطلنا جدلنا حول عمل المرأة وأين يقع مكانه، فالأكيد أن زمن الخطّاب لم تنتشر فيه لوحات كمثل «ممنوع دخول غير النساء»، إنما كانت المرأة ـ وبحسب كتب التراث ـ تبيع بضاعتها أمام الملأ وفي العلن، ومع هذا، أيدت ولم تعنّف، فلا نأتي وبعد هذه السنين فننكر على المرأة عملها خارج بيتها، متعلّلين بالطفل والزوج والخدمة وكأن امرأة ذاك العهد لم تكن أماً أو زوجة! وكأن امرأة هذا العهد لا تستعين بمن يعينها في بيتها وتربية أبنائها! ثم من تحدث عن خلط الأولويات هنا! ومن افترض أن خروج المرأة للعمل أهم من رعاية بيتها والتزاماته لو كانت الظروف لا تسمح بالفعل بخروجها! ومن قال إن عمل المرأة من رفاهية هو ومن ترف تزاحم عليه الرجل! في تناس أو تغافل عن وضعها الاقتصادي المتواضع الذي غالباً ما يكون من أسباب عملها! ومن جزم أن مصير كل زوجة أن تكون موظفة! بل، والأكثر من هذا، من ادعى أن المرأة وإن اكتفت مادياً لا حجة لها في العمل إن رغبت في تحقيق اكتفائها المعنوي بإنتاجها! ومن اعتقد واهماً أن عجلة بناء الوطن ستدور بسواعد الرجل دون المرأة، وكأن دفعها الذكوري المتثاقل في الماضي... وكأن تأخرنا اليوم، لم يعلمنا شيئاً! وأخيراً، من حصر عمل المرأة في مجال دون غيره وكأن مشقة العمل أو تبعاته أمر لا يخص صاحبه، ووحده من يقرر في شأنه!

يقيم الفقه الإسلامي تناسباً كاملاً بين الرجال والنساء، فليس يكفي أن يصحح وضع ما بقانون يصدر، أو ظفر يتحقق، بل لا بد أن يتم ذلك وليس في عقلنا الباطن، ولا الواعي، اثارة من شك في أن الله خلقنا جميعاً على حد سواء، فلا عقل أقل ولا دين أنقص، فهل هناك أكثر من مسألة الإفتاء التي مكن الإسلام المرأة منها! ألم تكن زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام أعظم المفتيات! حتى لقد نبغ من النساء في الفتوى من وجدنا الخليفة عمر بن عبد العزيز يأمر عامله على المدينة أن يتعلم منها وينزل على رأيها، وهي عمرة بنت عبد الرحمن!! أمّا آية «وقرن في بيوتكن..»، فليس معناها لا تخرجن من البيت، أو لا تعملن وتسعين، وإلا لتوقفت النساء وقتذاك عن الخروج إلى المساجد والأسواق، فإذا انتقلنا إلى آية «للذكر مثل حظ الانثيين..»، فهي لا تفيد أن المرأة أدنى منزلة وحظاً من الرجل، فهي لا تعدو كونها تنظيماً مالياً قائماً على ركائز معينة ليست طبيعة المرأة مسؤولة عنها، بدليل أن الرجل لا يذهب دائماً بمثل حظ الأنثيين، بل إن أول ميراث وقع في الإسلام ذهبت المرأة فيه بنصيب الأسد، فحين استشهد سعد بن الربيع، وترك بنتين وامرأة وأخاً، استولى الأخ على المال كله، فأتت المرأة رسولها تستشيره، فنزل الوحي وأعطيت البنتان الثلثين، والأم الثمن، وما بقي ترك للعم الذي كان أقل من السدس، كما هي آية «فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء..»، التي لا تعني بحال تحقير شأن المرأة، أو الحد من نشاطها المشروع، فهل تجوز شهادة الزوج على زوجته! إن أبا حنيفة كان يرفض ذلك مع كون الزوج رجلاً، وكما ذكرنا في مقال سابق أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجز شهادة البدوي على صاحب القرية (أي على آخر من أهل الحضر) وإليه ذهب الإمام مالك، كما أسقط كثير من الفقهاء شهادة الأب على ولده، فلماذا لا تجوز شهادة هؤلاء جميعاً وكلهم رجال! هل لأنهم ناقصوا عقل ودين! بالطبع لا، وإنما لاعتبارات فقهية اقتضت أن يكون نصاب الشهادة بالنسبة للمرأة شهادتين، وبالنسبة للرجل نفسه في بعض المواطن أربعة رجال، فإن قيل أن في بعض مما سبق مزية للرجل وقد يكون، عندها تكون الإجابة وببساطة: «المزية لا تقتضي الأفضلية».

كلمة أخيرة: أجاز شيخ الإسلام ابن تيمية إمامة المرأة للرجل عند الحاجة، وصحة اشتراط المرأة على زوجها ألا يتزوج عليها، ومساواة شهادتها بالرجل إن كانت تاجرة. كلمة بعد الأخيرة: الغاشية التي تحجب الحقيقة عن أبصار قومنا ناشئة إما عن تفسير لديننا موظّف أو سوء فهم له، فلم يكن ثمة بد من هذه الوقفة مع الدين.