في الحاجة إلى وصفة عربية

TT

في الطرقات، في الشارع العام، أمام المساجد، طوابير من المتسولين تملأ الأمكنة، أينما حللت تجدهم، يتناسلون كالفطر، يستجدون بلجاجة وبغصة، يتشبثون بالملابس، تختلف أفانينهم وحيلهم، أحيانا ينتبه إليهم أحد المارة، فيقدم لهم ما جادت به ذات اليد، سعيا لفك الحصار عنه، وأحيانا أخرى ينظر إليهم شزرا، ويهمهم: «أطياف ضالة، تهيم في متاهة الكذب والزيف، لا تجيد سوى التواكل والخداع».

مشاهد سريالية تحدث يوميا في شوارع مدننا المغربية، وتكثر في المناسبات الدينية والروحية، مشاهد تسعى الدولة المغربية جاهدة لمحوها من فضاءاتها، حفاظا على وجه المغرب المشرق والمتحضر، وذلك بإنفاقها 37.6 مليون درهم سنويا (الدولار يساوي 8.22 درهم) لمحاربة الإقصاء والتهميش والهشاشة الاجتماعية، ناهيك من المجهودات المكثفة لردم ذلك الصدع الفاغر فاه في جسد المجتمع المغربي من جهل وأمية وإقصاء اجتماعي وفقر ومشاكل اجتماعية، آفات تجعل كل الطرق معبدة لانتشار ظاهرة التسول بالمغرب، كظاهرة مهينة ومثيرة لكل معاني التقزز والاشمئزاز والامتعاض، لما فيها من إذلال للكرامة الإنسانية.

أنا لست هنا بصدد تناول ظاهرة التسول كمعضلة وظاهرة استشرت في مجتمعنا المغربي بشكل لافت؛ فهذا موضوع شائك يتطلب بحثا ميدانيا مطولا لاستجلاء أسبابه والبحث عن حلول ناجعة له، باعتبارها ظاهرة لا تكف عن نشب مخالبها في تفكيري يوما بعد يوم، لكن من بين 500 ألف شخص، يمتهنون التسول بشكل دائم أو موسمي بالمغرب، يشتعل في رماد ذاكرتي الآن مشهد لمتسول غريب، اختار آلة من صنعه، وأغنية من كلماته وألحانه كأدوات للتسول وكسب تعاطف الناس، وبنبرة حزينة، فيها شجن وألم، يبكي فلسطين والعراق، ويلعن الجبروت الأمريكي، فحظي على غرار المتسولين الآخرين تعاطف الناس وبعض الدريهمات، ما زلت أتذكره بجسده المنهك، وعينيه الزائغتين السارحتين، لا أعرف إن كانتا تبحثان عن كسرة خبز، أو عن حل لأزماتنا ومشاكلنا العربية، مشهد حز في نفسي، فلم يعد بعض حكامنا العرب فقط يستغلون القمم والمؤتمرات العربية لطلب معونات من الدول الثرية، بل إن المتسولين أنفسهم غدوا يستغلون قضايانا المصيرية للظفر ببعض الدريهمات، وفي نفس الآن أثلج المشهد صدري، فالقضية الفلسطينية واحتلال العراق قضيتان حاضرتان بقوة في وجدان الإنسان المغربي البسيط، رغم ارتهانه للهم اليومي ولتحصيل لقمة العيش، حاضرة وإن بوعي وفهم بسيط، لكن بإحساس مشترك ينزف دما وألما. حزن يخيم على النفوس عجزا ويأسا وانكسارا.

والمغرب كان دائما حاضرا بثقله ومواقفه الجريئة إزاء القضايا العربية، بمختلف أطيافه ومكوناته، أحزابا ومؤسسات ومجتمعا مدنيا، ولا يتوانى، في كل مرة تتاح له، عن إدانة ورفض ما تتعرض له فلسطين والعراق ولبنان والسودان والصومال من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وأحيانا يبدأ بالصراخ والهياج في الشوارع لصب جام غضبه على أمريكا وحليفتها إسرائيل، وحرق راية لا ذنب لها سوى أنها تعانق الأعالي. فما عساه يفعل أمام شلل القيادات والحكومات؟

واحتلال العراق دخل يوم 21 مارس (اذار) الجاري عامه الخامس، وثمة ركون لصمت مخجل، بينما نيرون يحرق أجسادا عربية بلذاذة ونذالة، ويستبيح دماء بريئة، ثمة ثقافة للصمت تعشش في لاوعينا وتفكيرنا، وسعي حثيث لترويضنا على الخنوع والذل، وهمجية وعنف أعمى يرتكبان أمام الملأ باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن أمام الصمت العربي هناك أصوات احتجت في ماليزيا وتركيا وفرنسا وأمريكا وبريطانيا... هناك حيث اعتقلت الشرطة الأمريكية 100 متظاهر في سان فرانسيسكو ونيويورك، احتجوا ضد الاحتلال الأمريكي للعراق.

والمغاربة كذلك، وفي هذا الشهر بالضبط، التفوا في كفن الصمت العربي، حيث تلقوا يوم 11 مارس الجاري ضربة موجعة شغلتهم وروعتهم، وملأت أذهانهم وتفكيرهم، وهي ثاني ضربة بعد أحداث 16 مايو (ايار) 2003؛ ويتعلق الأمر بحادث إرهابي جديد بمدينة الدار البيضاء، وبالضبط في أحد أحيائها الهامشية المسمى سيدي مومن، هناك حيث يعشش الفقر والجهل والأمية، مشاكل تكالبت واجتمعت لنسف ناد للإنترنت، وإن لم يكن هو المستهدف في الأصل، لكنه فُجر، ليحقق هؤلاء الانتحاريون فكرة «الجهاد»، التي ظلوا يحلمون بها، للظفر بالجنة وحورياتها، ولا بأس إن نسفوا وقتلوا في طريقهم أبرياء، وخلقوا الرعب في ساكنة المدينة، فكل الأماكن متشابهة ويمكن تفجيرها، سواء تعلق الأمر بملهى أو مطعم أو ناد للإنترنت ولمرتاديه...

المغرب الذي ظل على امتداد تاريخه الطويل يناضل من أجل الحرية والكرامة، وما زال يواصل مسيرته النضالية من أجل التنمية والحداثة والديمقراطية والمواطنة ودولة الحق والقانون، غدا اليوم تربة خصبة لاستنبات أفكار متطرفة وعنف أعمى، المغرب المنفتح المتسامح المهادن، الذي ظن أنه يمكن أن يظل بمعزل عن هذه الأحداث الإرهابية، لكنه نسي أو تناسى أننا في عصر تمت فيه عولمة كل شيء، حتى الإرهاب تمت عولمته، أحداث إرهابية وفكر ظلامي يسعى لتقويض كل ما هو نبيل وإنساني في حياتنا، أحداث إرهابية من صنع أثرياء يصرون على جعل أجساد الفقراء الطرية والمغسولة فكريا، قنابل بشرية قابلة للانفجار في أي وقت.

وحتما، سننتظر الكثير من مؤتمر القمة العربية بالرياض في ظل هذا الوضع العربي المسدود الأفق والمأزوم والمهترئ، ولن ننتظر عجزا، ولا اتفاقا، ولا تراشقا بالتهم ولا مهرجانا خطابيا، ولن ننتظر تشرذما واختلافا، ولا تخلفا عن الموعد، ولن نلتمس الأعذار لأي قيادة، ولن ننتظر قرارات ومناشدات تظل لصيقة بالبياض لأجل غير مسمى، ولا أعمالا بالنيات، ولا عرضا لأهم الأحداث الطارئة منذ آخر مؤتمر إلى الآن، ولا أظن أن يومين كافيين لحل كل المشاكل العالقة، فالملفات ثقيلة، والعراق في حاجة إلى من يعيد إليه استقراره، والسيادة لأبنائه، والقضية الفلسطينية ليست في حاجة إلى مقايضة أو إلى تنازلات، وحكومة الوحدة الفلسطينية في حاجة إلى دعم، ورفع الحصار الدولي المفروض عليها، ولبنان والسودان والصومال في حاجة إلى الاستقرار وإلى حماية السلم الأهلي وتجنيبها حروبا داخلية هي في غنى عنها، والأمة العربية في حاجة إلى فتح الحوار مع إيران وتقريبها لنا عوض اعتبارها طرفا مصعدا للأزمات في وطننا العربي.

لقد آن الأوان لوضع حل جذري لكل هذه القضايا العربية العالقة والمصيرية، وفتح ملفات لمشاكل عربية أخرى يغرق الإنسان العربي في لجتها حتى النخاع، آن الأوان لمحاربة الإرهاب بوصفة عربية قحة، وإصلاح التعليم وتطوير الاقتصاد ومحاربة الجهل والأمية والفقر وتحقيق التنمية والديمقراطية الحقة والمواطنة وحرية الصحافة، وتقديم حلول عربية ـ عربية، بعيدا عن أية إملاءات قسرية ووصاية دولية، بما هي حلول تستمد نسغها من عمق المجتمع العربي. لقد آن الأوان أيضا لجامعة الدول العربية السادرة في غيها أن تستفيق، وتتخلص من ترهلها وشللها، وأن تأخذ العبرة من الاتحاد الأوروبي، الذي احتفل اخيرا بالذكرى الخمسينية لتأسيسه، حيث رأى النور بعد الجامعة العربية، وبالضبط في 25 مارس 1957، ويبدو في كامل فتوته وفحولته وتطوره سنة بعد أخرى، كما يبدو في اندماج وتوحد يوما بعد يوم «اللهم لا حسد».

* كاتبة من المغرب