استنساخ المشهد العراقي في الصومال

TT

ثمة فشل أمريكي جديد يطل برأسه هذه الأيام من الصومال، يكاد يكرر الحاصل في العراق، رغم التباين في بعض التفاصيل، فالقتال تجدد بصورة عنيفة ضد القوات الإثيوبية التي اجتاحت البلاد نهاية العام الماضي، بدعم وغطاء أمريكيين، الأمر الذي أعاد الى الأذهان ذكريات معارك لم تعرفها الصومال منذ ستة عشر عاما.

فقد نشطت مقاومة القوات الإثيوبية خلال الأسابيع الأخيرة، مما دفعها الى الرد بعنف، مستخدمة في ذلك تفوقها البري والجوي، وبدأ ذلك الهجوم الإثيوبي يوم الخميس الماضي، أثناء انعقاد القمة العربية في الرياض، وترتب على ذلك أن انتشرت الحرائق في العاصمة مقديشيو، بعدما قصفت بعض أحيائها، ولم تعرف بعد أعداد القتلى والجرحى، الذين قدرتهم الوكالات بالمئات، لكن المعلومات الشحيحة التي خرجت من العاصمة تحدثت عن تدمير ثلثي بيوت المدينة، وتشريد كل سكانها، ونزوح حوالي 60 الف شخص منها، كما تحدثت عن امتلاء المستشفيات بالجرحى الذين لا يتوافر لهم العلاج الكافي بسبب النقص في الأدوية والأسرة، وعن انتشار جثث القتلى في الشوارع.

وكالة فرانس برس جمعت يوم السبت الماضي شهادات لبعض سكان مقديشيو، رسمت صورة لما يجري هناك، فذكرت أن عددا كبيرا من السكان تحاصرهم المعارك في بيوتهم، وفي اتصال هاتفي أجرته الوكالة، قالت صومالية اسمها حبيبة حسن تقيم الى جوار ملعب كرة القدم الذي تدك منه الدبابات الإثيوبية مواقع المسلحين المقاومين: «إنها لم تشاهد مثل هذه المعارك على الإطلاق، التي هى الأسوأ التي عرفتها مقديشيو منذ الحرب الأهلية عام 1991».

حسب الوكالة، فإن 75 صومالياً في الأقل قتلوا منذ يوم الخميس، في حين أن الحكومة الإثيوبية ذكرت أنها قتلت 200 مسلح. وقال بعض سكان العاصمة إن الإثيوبيين يعززون مواقعهم قرب ملعب كرة القدم، في حين يصر المسلحون على طردهم. وذكرت حبيبة حسن أنها الوحيدة في أسرتها التي بقيت في المنزل، وهي تريد أن تغادره ولكن كثافة النيران تمنعها من ذلك، خصوصا أن بعضا من جيرانها قتلوا من جراء القصف، لذلك فأنها لزمت البيت، وأصبح الهاتف هو الوحيد الذي يربطها بالعالم الخارجي.

نقل التقرير عن شخص آخر اسمه إبراهيم دوالي، من سكان حى علي كامين في جنوب المدينة الأكثر تعرضا للمعارك: «لا نعرف أين نذهب، فنحن عالقون في منازلنا والجثث في الشوارع، ولا إمكانية لنقل القتلى والجرحى بسبب كثافة القصف المدفعي». وتحدث ثالث اسمه علي حسن، وهو من سكان ذات الحي: «لقد دمرت المنطقة برمتها، وأصبح دخان الحرائق الأسود يتصاعد منها طول الوقت، الأمر الذي ينذر بكارثة لا يعرف أحد مداها». في الوقت ذاته، فإن متحدثا باسم إذاعة «شبيلي» الصومالية المستقلة وصف ما يجري في المدينة بأنه «مجزرة كاملة ضد المدنيين».

وفي حين تواصلت المعارك في مقديشيو، فإن منظمة «هيومان رايتس ووتش» المعنية بحقوق الإنسان أصدرت بيانا أدانت فيه وجود برنامج دولي للاعتقال السري! لصوماليين مشتبهين فروا أخيرا من مناطق القتال. واكدت في بيان وزع في نيروبي أن «كينيا وإثيوبيا والولايات المتحدة والحكومة الصومالية الانتقالية تعاونت على ذلك البرنامج السري»، مشيرة الى أن كلا من هذه الحكومات أدت دورا مشينا عندما أساءت معاملة نازحين من مناطق الحرب، حيث رحلت كينيا سرا أشخاصا أودعوا قيد الاعتقال، وقد استجوبهم عملاء أمريكيون. كما أن إثيوبيا مسؤولة عن العشرات من حالات الاختفاء. وأضاف بيان المنظمة أن 150 شخصا في الأقل، اعتقلوا في كينيا بعد عبور الحدود الصومالية، حيث اعتقلتهم السلطات هناك سرا، بدون توجيه أي تهمة لهم، واستمر ذلك لعدة أسابيع، وهو ما يعد انتهاكا للقانون الكيني ذاته.

في ذات اليوم الذي بدا فيه الهجوم الإثيوبي المضاد (الخميس الماضي) أعلن البيت الأبيض، في تقرير سلمه الى الكونغرس، أن استراتيجية الحكومة الأمريكية في الصومال ترمي الى القضاء على «التهديد الإرهابي» فيه، وإعادة الاستقرار إليه، عبر دعم تشكيل حكومة مركزية فاعلة.

في اليوم التالي (الجمعة) نشرت الصحف العربية إعلانا حول الصومال، صدر في أعقاب اجتماع لمجلس جامعة الدول العربية على هامش القمة العربية، حضره الأمين العام للأمم المتحدة وأمين منظمة المؤتمر الإسلامي، والأمين العام للجامعة العربية، ورئيس مفوضية الاتحاد الافريقي، ممثل السياسات بالاتحاد الأوروبي، ووزير خارجية كينيا، ودعا البيان الى سرعة زيادة بعثة قوات الاتحاد الافريقي، لكي تحل محل القوات الاثيوبية. كما دعا الى أهمية التحضير لمؤتمر المصالحة الوطنية بين جميع الجماعات الصومالية المعنية. وتحدث البيان عن عقد اجتماع في القاهرة هذا الأسبوع لمجموعة الاتصال ومنظمة المؤتمر الإسلامي، لوضع استراتيجية تستهدف وضع استراتيجية تحقيق المصالحة الوطنية المنشودة.

ألا يذكرك ذلك بالسيناريو العراقي؟

فقد استخدمت لافتة الحرب على الإرهاب في التآمر على حكومة المحاكم الشرعية، التي أعادت الاستقرار والأمان للصومال لأول مرة منذ خمسة عشر عاما، ثم التواطؤ الأمريكي الإثيوبي لاجتياح البلاد، الأمريكان قدموا كل إمكانات الاجتياح، من المعلومات الى الطائرات مرورا بالتمويل، والإثيوبيون هم الذين تحركوا على الأرض، مطمئنين الى أن ظهرهم تم تأمينه، وقد حققت الحملة العسكرية هدفها، حيث أسقطت الحكومة وأجبر قادة «المحاكم» على الانسحاب من العاصمة، وعبور الحدود الى خارجها، وكان سقوط النظام سريعا، لسبب جوهري هو أن قادة «المحاكم» آثروا الانسحاب من العاصمة، حتى لا تصبح مسرحا للقتال يؤدي الى خرابها ويضاعف من أعداد الضحايا المدنيين، وبعدما حققت القوات الغازية أهدافها وسيطرت على مقديشيو استدعت من بيداوه عناصر الحكومة الانتقالية، الذين كانوا طرفا في التواطؤ، ودخل هؤلاء الى مقديشيو على الدبابات الإثيوبية، كما دخل عراقيو المنفى بغداد محمولين على الدبابات الأمريكية.

وإذا حدث ذلك في نهاية العام الماضي، فإن الأمريكيين والإثيوبيين فشلوا حتى الآن في إثبات الادعاءات التي تم الترويج لها قبل الاحتلال (أيضا لا تنسى السيناريو العراقي) فلم يعثر على أي قاعدة «للإرهابيين»، ولم يتم القبض على أي منهم، ولم يتحدث أحد ـ حتى مجرد حديث ـ عن وجود أي أثر لتنظيم «القاعدة» في البلاد.

بعد مضي شهرين تقريبا، كانت عناصر المقاومة الوطنية الصومالية قد أعادت تنظيم صفوفها، وبدأت عملياتها، التي تراوحت بين قصف تجمعات القوات الإثيوبية المنتشرة في العاصمة، وإطلاق الصواريخ على الطائرات المروحية الإثيوبية، مما أوقع أعدادا كبيرة من القتلى الذين أخفت سلطات أديس أبابا أعدادهم الحقيقية، ولم تتحمل القوات الإثيوبية هذه الهجمات، فشنت عمليتها العسكرية واسعة النطاق التي بدأت يوم الخميس الماضي، ورغم ما قيل عن هدنة وقعت بين قيادة القوات الإثيوبية وبين قبيلة «الهوية» التي تحتضن المقاومة في العاصمة، إلا أن تلك الهدنة سرعان ما تم العصف بها، وكل ما حققته أنها سمحت لكل طرف أن يعزز قواته ويعيد ترتيب صفوفه، وبعد ذلك تواصلت الاشتباكات، وسط حديث عالي الصوت عن ضرورة إحلال قوات افريقية أو قوات سلام دولية لتحل محل القوات الإثيوبية، وضرورة تحقيق الوفاق الوطني.

صحيح أن مثل هذه الحلول يمكن أن تكون مجدية لبعض الوقت، لكنها غير مرشحة لجلب الاستقرار للبلاد، لسبب جوهري هو أنها لم تتعامل مع المشكلة الأساسية، المتمثلة في الاجتياح الإثيوبي، الذي آتى بمجموعة من أعوانه لكي يسلمهم السلطة في مقديشيو، وهذا الاجتياح هو الذي أثار غضب الصوماليين، الذين يعرفون جيدا أن لإثيوبيا أطماعها في المنطقة، ويعرفون أيضا ان دعم الأمريكيين لهم ليس بريئا بدوره، ولكنه يستهدف إخضاع ذلك البلد الذي لا تحمل الإدارة الأمريكية لشعبه ودا، منذ أهان الجنود الأمريكيين وأذلهم عام 1993، والذي يتمتع بموقع استراتيجي متميز في القرن الأفريقي، وهو ما يريد الأمريكيون السيطرة عليه واستتباع دوله.

لقد اكتسبت «المحاكم» شرعيتها من أمرين، أولهما أنها نبعت من العمق الصومالي متمثلا في قبائله وشرائحه المختلفة، وثانيهما أنها قدمت نموذجا نظيفا طوى عهد أمراء الحرب ووكالات الجهات الأجنبية، ومن ثم أعاد الاستقرار والهدوء الى البلاد التي مزقها الاقتتال وأشاع فيها الفوضى والخراب. هذه الشرعية انضاف إليها عامل ثالث هو أن قيادة «المحاكم» أصبحت معقد أمل القوى الوطنية الصومالية في تحرير بلادهم، الأمر الذي دفعها الى التحرك في الوقت الراهن لتشكيل جبهة وطنية تضم مختلف الشرائح الصومالية، لتحرير البلاد وتخليصها من الهيمنة الأجنبية.

ذلك يعيدنا إلى مشهد آخر في المسلسل العراقي، الذي يبدو فيه الوفاق الوطني متعذرا في وجود الاحتلال، الذي يمثل الخلاص منه مفتاح الحل ووضع الأمور في نصابها الطبيعي، بحيث يتقدم الحصان العربة، الأمر الذي يسمح لها بالتحرك الى الأمام، غير أن هذه البديهية تغيب دائما عن الحسابات الأمريكية، حيث لا أعرف كيف أقنع المحافظون الجدد أهل القرار في واشنطن بأن العربة يمكن أن تتحرك إذا وضع الحصان في الخلف، إنهم يصرون على الغلط، ولا يريدون أن يتعلموا..

فهل الى هذا المدى وصل عمى البصر والبصيرة؟!