الطالب والمطلوب في علاقات موسكو وواشنطن

TT

الالتباس هو الذي يميز العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة. ولكن الرئيس فلاديمير بوتين يستهجن السلوك والسياسات الأميركية بينما يعيد وزير خارجيته تأكيد مصالح روسيا في شراكة مع الولايات المتحدة. وتسعى واشنطن إلى الاستعانة بروسيا في إطار عدم انتشار الأسلحة بينما تتابع السياسات حول حدود روسيا التي تعتبرها موسكو والكثير من الروس مسألة استفزازية إلى حد كبير.

وفي غضون ذلك يهدد الإسلام المتطرف كلا البلدين، ويعتبر التعاون بين القوى النووية في العالم ملزما، وهناك طائفة من القضايا الناشئة مثل البيئة وتغير المناخ لا يمكن حلها إلا في إطار عالمي. وإذا ما أخذنا بالحسبان المدى الذي باتت فيه مصالحهما متداخلة، فإنه ما من طرف يريد حربا باردة أو يمكنه القيام بذلك، ولكن البرود الجديد ضار بالنسبة لآفاق نظام دولي سلمي وإبداعي.

وقد وصل البلدان إلى هذه النقطة في ظل رئيسين توليا السلطة في وقت متقارب، وسيغادران في الوقت ذاته تقريبا. ومما يلفت الأنظار أن العلاقة الشخصية بين الرئيسين ظلت بناءة بصورة اكبر من العلاقة الشاملة. ولديهما الفرصة، بقدر الحد الذي يمكن فيه للثقة الشخصية أن تصوغ السياسات، في استخدام ما تبقى من أشهر في ولايتيهما لغرض معالجة بعض التوترات التي أضعفت أساس التعاون الطويل الأمد.

ويتجسد النفور في جانبين، هما من الجانب الأميركي، عدم الارتياح من الاتجاهات الداخلية في روسيا، والشعور بالإحباط من عدم اتخاذ موقف حازم بشأن القضية النووية في إيران، والتحفظات على الطريقة المفاجئة والحادة التي تعاملت بها روسيا مع الأجزاء المستقلة من الامبراطورية الروسية السابقة. وفي الجانب الروسي هناك إحساس بأن أميركا تستخف بروسيا وتطالب أخذ صعوباتها بالحسبان، ولكنها غير مستعدة لاحترام مطالب روسيا، وتبدأ الأزمات بدون تشاور كاف، وتتدخل واشنطن على نحو غير مقبول في الشؤون الداخلية الروسية.

ويرى بوتين نفسه في إطار تقليد بطرس الكبير وكاترين الكبرى، اللذين أسسا روسيا باعتبارها قوة عظمى، ولكنهما كانا أيضا مصلحين كبيرين. أما بالنسبة لبوتين وكثير من الروس، تمثل التجربة ما بعد السوفييتية انقلابا صادما في اتجاه التاريخ. غير أن التاريخ يخلق أيضا حساسيات خاصة لادعاءات روسيا الامبريالية.

ومن ناحيتها فإن أميركا يجب أن تبقي في ذهنها أن روسيا، التي يوجد فيها 11 توقيتا، تجاور مناطق رئيسية تجري فيها تحولات سريعة: أوروبا والشرق الأوسط والصين والهند واليابان، التي تحت رعايتها يتحرك مركز الجاذبية في الشؤون العالمية من الأطلسي إلى الهادي. غير أن هناك شيئا من المزية في تعليق وجهه إلي صانع سياسة روسي ساخط: «عندما نخبركم عن مشكلة روسية تردون بأنكم ستهتمون بها. ولكننا لا نريد الاهتمام بها. نريد فهمها».

وستتطلب العلاقة البناءة بين أميركا وروسيا تكييف الاتجاه الأميركي الذي يصر على الوصاية العالمية والميل الروسي على تأكيد القوة الفجة في إدارة الدبلوماسية.

وللولايات المتحدة وروسيا، بوصفهما اكبر قوتين نوويتين، مسؤولية خاصة تجاه مسألة الحد من التسلح النووي. إذ أنهما في حاجة إلى إعادة النظر في هذا الجانب مع وضع هذا الهدف في الاعتبار. إيران هي القضية الملحة الآن.

والأسئلة هنا: إذا كان الاختلاف تكتيكيا، فأين ظهر هذا الاختلاف؟ وهل هناك تقييم مختلف بشأن القدرات النووية الإيرانية، أو بشأن فعالية الدبلوماسية؟ وفي أي نقطة أو مرحلة ستصل القدرات النووية الإيرانية مرحلة اللاعودة؟ الإجابات على هذه الأسئلة يجب أن تقود التكتيكات لا أن تكون التكتيكات هي التي توجهها. ثمة ما يبدو في هذا الاتجاه من القرار الروسي الأخير بتعليق الشحنات النووية إلى إيران.

الجانب النفسي الأكثر حساسية في علاقات الولايات المتحدة مع روسيا يتعلق بالجمهوريات التي استقلت حديثا، والتي كانت في السابق جزءا من الإمبراطورية الروسية. الكثير من الروس يجد صعوبة في التفكير بشأن هذه الدول ـ خصوصا تلك القريبة من مركز السلطة التقليدية في روسيا ـ كونها دول أخرى، ويبدون امتعاضا تجاه ما يعتبرونه انتهاكا اميركيا لأمن روسيا.

هذه القضية تتطلب ضبط نفس من الجانبين. بوصفي من المؤيدين بقوة لتوسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى حدوده الحالية، لا اشعر بالارتياح تجاه المزيد من التوسيع إلا في حالة حدوث استفزاز جدي. وفي المقابل فروسيا في حاجة إلى قبول حقيقة أن الولايات المتحدة تتعامل مع الاستقلال الحقيقي لدول مثل أوكرانيا وجورجيا كعنصر أساسي في النظام السلمي الدولي.

التحدي الرئيسي في هذا الجانب يتمثل في مدى تأثير التطور الداخلي في روسيا على العلاقات الاميركية ـ الروسية. وهذه القضية ذات جانبين، الأول يمكن تلخيصه في السؤال عن مدى تأثير السلوك الداخلي لروسيا على المواقف والتوجهات الاميركية، والثاني يتخلص في المدى الذي يدب أن تصل إليه الولايات المتحدة في التأثير على التطور الداخلي في روسيا، وما إذا كان هذا التأثير يمكن أن يتم من خلال النصح أم الضغوط.

فيما يتعلق بالسؤال الأول، ينبغي على القادة الروس إدراك حقيقة أن الرأي العام الاميركي تشكل من خلال تاريخها الوطني، وان الرأي العام الروسي تشكل أيضا من خلال تاريخه الوطني. الولايات المتحدة ستحكم على المجتمعات الأخرى بمعيار احترامها لحقوق الإنسان. وفي الكثير من الجوانب يحدد ذلك السبل المتاحة أمام الرؤساء الأميركيين.

عند حدوث التحول من التأييد إلى الضغوط تظهر المزيد من القضايا التي يصعب متابعتها. الأوضاع الداخلية في روسيا مزيد من تاريخها الاوتوقراطي والفرص الجديدة التي افرزها سقوط النظام الأيديولوجي الشيوعي. في هذه الحالة لا يمكن أن يظهر على وجه السرعة نظام ديمقراطي على النمط الغربي على أنقاض التاريخ السياسي الروسي. ويمكن القول إن روسيا بوتين عبارة عن مرحلة تحول افرزها تأثير النظام الروسي المنغلق تجاه متطلبات كونه يشهد خطى عولمة متسارعة. هذا النظام يضم عناصر من الماضي الاستبدادي لروسيا والدولة البيروقراطية المركزية والفرص التي أصبحت مفتوحة بفعل علاقات التعاون بين أوروبا الموحدة وأميركا الصديقة.

الواقع السائد الآن في روسيا يتمثل في الجوانب الاستبدادية ونزعة مركزية الدولة، على الرغم من أنها اقل مما كانت عليه في الفترة السابقة من التاريخ الروسي. هدف أي سياسات روسية ايجابية يجب أن يرمي إلى إتاحة اكبر قدر من المحفزات للتطور الداخلي، كي يصبح أكثر مواءمة مع المعايير الديمقراطية. العوامل المؤثرة التي تشكل هذا التطور يجب أن تكون محلية وليست خارجية، مثلما يجب أن نضع في الاعتبار أن أية خطوات لا تركز الاهتمام على جهود تحديد التطور السياسي في روسيا، ستؤدي على الأرجح إلى تعزيز التوجهات الاوتوقراطية في روسيا.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)