غطاء رأس السيدة الوزيرة

TT

كاد الذين تابعوا أخبار الحكومة الكويتية الجديدة وهي تستعد لأداء القسم الدستوري أمام مجلس الأمة، يوم الاثنين الماضي، يظنون أن شَعر وزيرة التربية والتعليم العالي نورة الصبيح، هو الحدث الأبرز وليس على الإطلاق كفاءة الوزراء القادمين وقدرتهم على النهوض ببلادهم، أو مدى ألمعية هذه السيدة، موضع الجدل، في تسلم مهمة هي من أدق وأصعب المهمات في دولة يانعة كالكويت. وقبلها بأيام كانت النار قد اشتعلت بين الإسلاميين والليبراليين في البحرين بسبب مسرحية غنائية قامت على جهود الموهوبين مارسيل خليفة وقاسم حداد. وكل ما عرفناه نحن المتابعين عن بعد، انه كانت ثمة مشاهد عناق على المسرح، أزعجت البعض واعتبرها خروجا على اللائق والمسموح. وهكذا لم يكن من متسع للنقاد الموضوعيين، وسط هذا الصخب والغضب في سبيل مشهد أو عدد محدود من المشاهد ـ أين منها تلك التي تتدفق علينا يوميا من الشاشات ـ لإعلامنا بطبيعة العمل أو مستواه الفني والجمالي. وكدنا لكثرة ما كتب ودبج عما جره «ربيع الثقافة» البحريني من لغط وخلاف وشتائم، متهمينه بأنه «خريف السخافة» أن ننسى اسمه الأصل، ونظن أنه لم يكن على لائحة البرنامج سوى هذه المسرحية التي أقامت الدنيا ولم تقعدها. وقبل هاتين القصتين، كانت الصرخات قد تعالت من فلسطين بسبب منع وزارة التربية لكتاب بعنوان «قول يا طير»، وذلك بفضل قرار وزير أو لجنة، لا فرق، ولكن ما بدا واضحاً أن الأهم من قيمة الكتاب المعرفية الذي يحفظ جزءاً من التراث الشفهي، لشعب يخوض معركة وجود في مواجهة احتلال على استعداد لأن يذبح طفلا كلما أراد الاستيلاء على حبة رمل إضافية، هي بعض المقاطع الواردة في الكتاب والتي يبدو أنها خدشت حياء الرقباء وهزت وجدانهم. وعجباً كيف لم يتنبه هؤلاء الفطناء في فلسطين الذين يتحرون مصادر الأخطار بدقة يحسدون عليها، إلى خطر المجاري على البشر، وتهديدها للعشرات بالغرق في مياهها الآسنة. وهذه ليس سببها شارون أو أولمرت، ولن تكون الكارثة الأولى ولا الأخيرة كما يقول السفير الفلسطيني السابق يحيى رباح، مذكرا بأن ما حدث هو مجرد بند واحد على لائحة بنود كثيرة تنذر بالانفجار الكبير «لأننا تجاهلناها لفترة طويلة، وقفزنا فوقها لكي نغرق في التجاذبات السياسية».

وقبل هذه المأساة التي هزت كل وجدان حي، بقليل كانت المحاسبات والمحاكمات قد بدأت في المغرب لصحافيين، كل ما فعلوه هو أنهم أصدروا عدداً من مجلة تسمى «نيشان» موضوعه النكت التي يتبادلها المغاربة في ما بينهم عن الدين والجنس والسياسة. ولم يسأل أحد عن مغزى ودلالات وجود هذه الطرف، في مجتمع محافظ، على أفواه العامة وفي يومياتهم، وانصب السخط كله على الذين أعادوا روايتها. وبمقدورنا أن نروي ما شئت من القصص التي تؤكد وحدتنا العربية من المحيط إلى الخليج في العناية بالقشرة على حساب لب الثمرة وعصارة روحها.

وإن كنت لا تصدق، فنحن نحيلك إلى كل الدراسات والإحصاءات التي تجريها المنظمات الدولية على منطقتنا لتتأكد من أننا في قاع اللائحة، حين يتعلق الأمر بكل ما هو جوهري وحيوي، ويصنع للشعوب مكانتها بين الأمم. وبما أن القصة الأحدث في مسلسل تضييع الوقت بالقشور، تخص وزيرة التربية الكويتية، فدعنا نذكر على الأقل بأن دراسات اليونسكو توضح أن منطقتنا العربية في هذا المجال ما تزال في الدرك الأسفل، وقد سبقتها حتى الدول الأفريقية، في غالب الأحيان. لذلك فإن ما كان يجب أن يشغل بال نواب الأمة الكويتية فعلا، هو مواهب الوزيرة الجديدة في حل مشاكل باتت من الاستعصاء بحيث يتوجب تعيين مجموعة وزراء لفكفكة عقدها، وليس بالتأكيد ما تلبس السيدة صبيح أو تأكل وتشرب.

فكل الدول العربية، بدون استثناء على لائحة الراسبين والمتخلفين في مجال التعليم العصري الذي يواكب القطار العالمي ويحفظ في الوقت نفسه للتلميذ كينونته الوطنية السوية. وهذه المعادلة الشقية التي ندفع ثمنها عطالة وبطالة أو جهلا وارتجاجات في الشخصية، تستحق سخطا وغضبا كبيرين من الغيارى على الانتماء والهوية الذين لا يحركون ساكناً أمام عجمة ألسن أطفالهم أو تزويدهم بشهادات لا شيء يوازيها في نضجهم المعرفي أو تأهيلهم المهني.

وتقول لك اليونسكو عزيزي القارئ إن معدلات محو الأمية تحسنت في كل دول العالم ولكنها لا تزال منخفضة في جنوب وغرب آسيا (59 %) وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (61 %) والدول العربية (66 %)، أما عن تأهيل الأساتذة وتدريبهم فحدث ولا حرج، إذ يتبين ويا للعار أن نصف أساتذة مدارس لبنان، مثلاً، بلد النور والإشعاع، هم غير مدربين أو مؤهلين للقيام بأدوارهم. ومع ذلك فلا شيء يمنع الشعب اللبناني من التفاخر بثقافته، واعتبار بيروت عاصمة الكتاب والفنون.

ولعل أول ما يترتب على عاتق وزيرة التربية في الكويت بعد الامتحان الصعب الذي كان عليها أن تتجاوزه، وهي تصر على أداء القسم حاسرة الرأس، أن تنكب على تعديل المناهج، بحيث تصبح قادرة على السماح للتلميذ بالرؤية من عدة زوايا، بدل هذا الإصرار التربوي العربي على إلزام التلميذ رؤية القضايا من النافذة الضيقة الوحيدة التي نرسمها له. وكان جبران خليل جبران قد كتب منذ حوالي القرن يحاول فتح شهية الأمة الغافلة على اللباب بدل التلهي بالقشور قائلاً: «أقول لكم ولنفسي إن ما نراه بأعيننا ليس أكثر من غمامة تحجب عنا ما يجب أن نشاهده ببصائرنا. وما نسمعه بآذاننا ليس إلا طنطنة تشوش ما يجب أن تستوعبه بقلوبنا». فقد كان جبران مؤمنا بأنه «لا، ليست الحياة بسطوحها بل بخفاياها، ولا المرئيات بقشورها بل بلبابها، ولا الناس بوجوههم بل بقلوبهم. لا ولا الدين بما تظهره المعابد وتبنيه الطقوس والتقاليد، بل بما يختبئ في النفوس ويتجوهر في النيات». وبما أننا لم نصغ لجبران وأمثاله من النهضويين الكبار، فها نحن ننتظر منذ مئة سنة ونيف أن تتوقف مهزلة العيش في الهامش والانتقال إلى المتن، ولا ندري بعد، كم من سنة أخرى علينا أن ننتظر غودو...

[email protected]