من الثنائية إلى الشمولية

TT

لم يكن اللبنانيون بحاجة إلى متابعة جلسات القمة العربية التاسعة عشرة في الرياض ليدركوا أن بلدهم عاد، بالذهنية والممارسة معا، إلى عهد ما قبل اتفاق الطائف، أي عهد التمثيلين والمشروعين والحكومتين.

ولا كانوا أيضا بحاجة إلى إهدار أربعة أشهر من عمر بلدهم ليكتشفوا أن أزمتهم ليست سياسية بقدر ما هي «دوغماتيكية» تعود في جذورها التاريخية إلى علاقة بناء التركيبة الطائفية الفريدة في لبنان ببعضهم البعض... وعبرها «بحماتهم» خارج الحدود.

من المكابرة تجاهل تقاطع «العامل الطائفي» مع العامل الإمبريالي في تاريخ التدخل الخارجي في لبنان منذ ما كان يعرف في القرن التاسع عشر بـ«المسألة الشرقية».

وإذا كان العامل الطائفي الذريعة التي توسلتها الدول العظمى آنذاك (فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا) لتقاسم تركة «الرجل المريض» في الشرق الاوسط (الامبراطورية العثمانية)، فقد شكل اعتماد العامل الطائفي أساسا لعملية توزيع التركة العثمانية في لبنان «معادلة سياسية» ثابتة لكل الكيانات اللبنانية التي انبثقت عن هذه الامبراطورية، بدءا بنظام القائمقاميتين (المسيحية والدرزية) بين عامي 1840 و1860، ونظام المتصرفية بين عامي 1861 و1919 ودولة الانتداب الفرنسي بين 1920 و1943 ومن ثم دولة الميثاق الوطني، بين عامي 1943 و1989 ودولة اتفاق الطائف القائمة شكلا حتى الآن.

في ظل هذه الخلفية التاريخية لا يبدو مستغربا أن يتصرف اللبنانيون اليوم، وبكفاءة لافتة، كأبناء كيانين جغرافيين مكرهين على التعايش جنبا إلى جنب على «ساحة» واحدة، فاللعبة المستمرة منذ القرن التاسع عشر لم يتغيّر فيها سوى أسماء بعض اللاعبين الخارجيين.

مع ذلك تتميز الأزمة الراهنة عن سابقاتها في تسجيلها لنقلة نوعية في علاقة بعض الطوائف بـ«حاميها» الخارجي بلغت حد تقديم مصلحة «الحامي» على مصلحة الوطن... وربما مصلحة الطائفة «المحمية» على المدى الطويل. باختصار، ورغم أن اللبنانيين اعتادوا على «الثنائية» في الولاء الوطني في كل «أزمة هوية» مروا بها منذ أواخر الحكم العثماني، يبقى المستجد على أزمتهم اليوم هذه «الشفافية» في التعبير عن ثنائيتهم وهذا الوضوح في الإعراب عن تباين ولاءاتهم ـ سواء في خطابهم السياسي في الداخل أم في علاقاتهم المزدهرة مع «حاميهم» في الخارج.

هذه الشفافية ـ التي بلغت حد الوقاحة احيانا ـ توحي وكأن اللبنانيين بدأوا ينتقلون، نفسيا على الأقل، من عهد الدولة الواحدة برأسين واتجاهين ـ كما كان الحال في عهد حكومتي الرئيس سليم الحص والجنرال ميشال عون ـ إلى عهد الكيانين المنفصلين جغرافيا والمتداخلين إثنيا ـ كما كان الحال في ظل نظام القائمقاميتين.

وهنا تكمن خطورة مراوحة الأزمة في مكانها، فمجرد وقوعها في حالة المراوحة مؤشر كاف على أن «مباراة» شد الحبل بين المعارضة والموالاة في وسط بيروت التجاري لم تفرز أكثر من تعادل في النقاط ـ والأرجح أنها لن تفرز أكثر من هذه النتيجة طالما بقي سقفها محكوما سلفا بخطوط التماس الطائفية في الداخل وتوازنات القوى الدولية والإقليمية في الخارج، بمن فيهم «حماة الديار» الجدد.

ولأن هذا التعادل في النقاط لن ينتج أكثر من حالة جمود قاتلة لبلد هو في أمس الحاجة إلى التقدم خطوة واحدة على الأقل على طريق استعادة مسيرة إنمائه، ولأن مسرحية «عرض العضلات» في وسط بيروت أصبحت مملة للمشاهدين والممثلين معا، ولأن عامل الزمن لم يعد في مصلحة المعارضة ولا في مصلحة الموالاة بقدر ما هو في مصلحة تكريس «الثنائية» التقسيمية بين اللبنانيين... بات السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: لماذا إصرار المعارضة على مواقف تعجيزية في مواجهة سياسية تجاوزت تطوراتها اللعبة الديمقراطية إلى تهميش الديمقراطية نفسها، سواء بمطلب «الثلث المعطل» أو بقرار إقفال أبواب قاعة مجلس النواب في وجه الهيئة التشريعية في دورتها العادية… الآن تهميش الديمقراطية أصبح مطلب «حماة الخارج» كمقدمة لإلغائها نهائيا في حال قيام الدولة الشمولية في لبنان؟