أمل اليهود بالأباعر

TT

كما قلت في الحلقة السابقة من هذا العمود، كان العراق سباقا في العصرنة والتحديث، على عكس ما آلت اليه الامور اليوم، حيث أصبحوا سباقين في الرجوع الى الوراء. يكفي ان نذكر ان هذه الاداة الاساسية البسيطة، وهي الحنفية ترجع الى ايام الدولة العباسية حين طور العراقيون تجهيز البيوت بإسالة الماء، أي بالانابيب. عارضها الفقهاء اولا وافتوا بعدم صلاح مائها للوضوء لأنها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

غير ان الإمام ابوحنيفة سفه ذلك وأفتى بصلاحها فسميت باسمه، «حنفية». حصل مثل هذا التطور في ادخال وسائل المواصلات الحديثة في اوائل القرن العشرين عندما شرع الألمان بمد خط سكة حديد برلين ـ بغداد. فسماه العراقيون بالسكة العالية وأخذوا بالسفر بالقطار بين بغداد وسامراء. تبع ذلك إدخال السيارات ثم الطائرات في الثلاثينات. هنا ايضا شكك البعض بمستقبل ما يسمى بوسائل الاحتراق الداخلي. رأوها تتعطل في الطريق وتستعصي على التشغيل بين الحين والآخر فقالوا انها وسائل معرضة للتلف والعطل والخراب. وهو طبعا ما يحصل لأرقى السيارات حتى في ايامنا هذه. وأين ذلك من الجمل الذي لا يعطل ولا يكسل ولا يمتنع عن الشغل ولا يحتاج الى هواء لنفخ ارجله أو بنزين لتشغيله او زيوت لتليين مفاصله. المعروف وما يقال ان اليهود ادرى من الجميع في حزر توقعات السوق ومجرى الاعمال.

ولكنهم هنا اوقعوا انفسهم في خطأ مرير في توقع حركة النقل. وهكذا يمكنني ان اقول انه «حتى اليهود يخطئون!»، تأملوا في الموضوع وقالوا ان هذه الشاحنات والسيارات ستخرب ويعود الناس الى ركب الحمير وتحميل بضائعهم على الجمال. فغامروا واشتروا كل ما في الأسواق من جمال أملا في زيادة الطلب عليها فترتفع اسعارها ويحققون مربحية جيدة من العملية، ولكن ذلك لم يحصل طبعا.

وبقيت البعير عالة عليهم تقتضي إطعامها ورعيها ورعايتها. فسخر القوم منهم و صاغوا هذا المثل الشعبي «أمل اليهود بالأباعر»، يروى عن كل من يسيء الحساب ويوقع نفسه في ورطة يائسة ويجري وراء أضغاث أحلام. أضحكني موضوع الأباعر عندما سمعت احد ابناء شيوخ العشائر يتمادى بذكر جمال اهله. سألته ما الذي يجنيه والده واهله منها. قال لا شيء، بل هي عبء عليهم من الناحية الاقتصادية , اذ تفرض عليهم رعايتها وحراستها وإطعامها.

قلت له ولم لا تتخلصون من هذا العبء؟ قال كيف؟ تريد شيخ عشيرة بدون أباعر؟! لم يعد البعير فقط في ذمة التاريخ من الناحية العملية. لحقته في ذلك البواخر النهرية، بل والسيارات نفسها بعد ان حل النقل الجوي محل النقل البري والنهري. «العراق في انتقال» اصبح الشعار الذي تبنته الدولة في ايام الخير قبل ان تحل السيارات المفخخة محل السيارات الفارهة الآمنة.