الدولة الشفوية

TT

«الدولة الشفوية» هي غير الدولة الصفوية، التي حكمت إيران في القرن السادس عشر، والتي امتد نفوذها من قندهار إلى بغداد. الدولة الشفوية أصغر من الصفوية بكثير، ولكن مصدر إلهامها هو ذات المساحة من بغداد إلى قندهار، مساحة يرتع فيها الشفويون، نجوم الفضائيات العربية، الذين لا يعتمدون على المنطق أو الحقائق أو الدقة أساسا في نقل المعلومة والخبر أو تحليلهما، فقط يعتمدون على علو الصوت أو طرح تساؤلات تحمل الإجابة في داخلها.

الدول، حسب الأعراف الدولية، تتكون من حكومة وشعب وأرض محددة، أما الدولة الشفوية فهي لا تعترف بالحكومات أصلا، وتتكون فقط من جماهير وهي بالطبع «بلا حدود». في الدول عادة يكون الإعلام هو السلطة الرابعة، أما في الدولة الشفوية فالإعلام هو السلطة الرابحة، أي بدل أن تراقب المؤسسة الإعلامية الفساد في دولة المقر، نجدها تركز عدساتها على الدول «إللي جنبها».

الشفويون اليوم هم ظاهرة خطيرة تأكل في خلايا العقل العربي، هذا العقل الجمعي، الذي انتقل من حكايات المصاطب والدواوين والمقاهي إلى الراديو والتلفزيون، دونما التوقف طويلا عند الآلة الكاتبة. الظاهرة بدأت مع مقدمي البرامج في الفضائيات العربية، إلا أنها اليوم اتسعت لتشمل ضيوف البرنامج شبه الدائمين، وانتشرت العدوى واستفحلت أخيرا لتشمل المشاهدين العاديين، الذين يشاركون عبر الهاتف بآرائهم الشفوية!

لم يكتف الشفويون بما أحدثوه من تلوث أصاب البيئة الإعلامية المرئية والمسموعة، بل قرروا ممارسة الكتابة في الصحف حتى يعم التلوث.. ولدينا كثير من الصحف التى فتحت لهم أبوابها، وخصوصا الصحف القطرية، وليس من المبالغة اعتبار الدوحة اليوم «عاصمة للدولة الشفوية».

مقدم البرامج، الذي بدأ الكتابة في الصحف، رجل قادم لتوه من عالم الشفاهة، مقالاته تشبه صرخاته على الهواء وتحريضاته لضيوفه كي ينهش واحدهم في لحم الآخر، وكأننا في حلبة لصراع الديكة. الكتابة التحريرية مصدر إغراء للشفويين أمثاله، إذ يبدو أن الأمر اختلط عليهم، فهم لا يفرقون بين التحرير الصحافي وتحرير الأرض على الشاشات الفضائية، فهم غارقون في عالم البطولات المتوهمة ولا يقبلون بشيء أقل من «التحرير»!

بداية، أنا لست ضد الشفوية، فهي ظاهرة موجودة في أغلب الثقافات، والتراث الثقافي العربي شفاهي بمعظمه، وقد تم تدوينه لاحقا، لكن باعتماد آليات معقدة للتأكد من الدقة والحقيقة ومصادر المعلومات تجنبا للوقوع في فخ الزيف. ولا أنكر أنني بذلت جهدا كي أبحث لشفويي اليوم عن جذور فكرية في موروثنا الثقافي والشعبي، فوجدت أنهم ليسوا امتدادا لهذا التراث بمعناه الفكري الراقي، أي ليس بين شفويي اليوم من يحمل رؤية المتنبي العالية والمركبة للكون، حتى نغفر له مدح كافور بما يشبه الذم، ولا هم جرير ولا الفرزدق لنسهو عن هجوهم لنا بجميل شعرهم وإبداعهم الفكري.. ولكن يمكن اعتبارهم، في أحسن الأحوال، تطورا إلكترونيا لمصطبة «الحكواتي» في المقاهي القديمة والموالد الشعبية، فالحكواتي في سرده ينصب من يريد بطلا لا يجابه، ويردي من يشاء قتيلا جبانا، ويلفق الحكايا كما يهوى لجذب أكبر عدد من المستمعين الذين يطربهم، كما هي عادة البشر، نبل البطولات ولو كانت وهمية من كلمات وساحتها الفراغ.

مقدم البرامج الشفوي، يسند حججه واتهاماته دائما قائلا: (يقول البعض كذا وكذا..)، أو يسوق رأيه على أنه رأي أحدهم: (أحدهم يتساءل..)، إلى آخر هذه المقولات اللامهنية، التي يجسدها بأوضح صورة برنامج «الاتجاه المعاكس» وكذلك برنامج «أكثر من رأي»، مقولات تفتقر إلى أبسط قواعد الدقة والأمانة. لو أراد هذا النجم الفضائي أن يرتقي من على مصطبة الحكواتي ليصبح صحافيا حقيقيا نثق بحياديته وأمانته، فليقل لنا من هم هؤلاء (البعض) الذين يقولون ويستند هو إلى آرائهم، أو ليفصح لنا من هو (أحدهم) الذي يتساءل دائما. وما دمنا في سياق الحديث عن اللامهنية، فخذ مثلا آخر: تعرض قناة الشفويين الفضائية أشرطة مسجلة في الغالب لعمليات إرهابية، مرفقة بأغان شجية تمجد (المقاومة)، وتقول المذيعة لنا: «لم يتسن للمحطة التأكد من صحة الشريط».. إذا لم يتسن للمحطة التأكد من صحة الشريط، فأين احترام المهنية الصحافية في عرضه إذن؟ وخذ هذا أيضا: في خبر عن الاستفتاء في مصر، قال مذيع القناة نفسها، انهم «مسكوا» النظام المصري متلبسا بالتزوير، حيث استطاع مراسلهم، الذي لا يحمل الجنسية المصرية التصويت في الاستفتاء، وقلت لحظتها «برافو» فالقناة التي أنتقد أداءها المهني فاجأتنا أخيرا بسبق صحافي في موضوع مهم كتزوير الانتخابات، ولكن عندما عرضت القناة التقرير المصور، تبين أن مراسلها كذب أكثر من مرة، عندما سأله القائمون على مركز الاقتراع عن جنسيته، وليس هذا فحسب، بل إن التقرير المصور لم يعرض لنا المراسل المذكور وهو يقترع فعلا. فمن المزور إذن، النظام المصري أم قناة الشفويين؟!

لا نعرف على أي أسس مهنية يعمل هؤلاء القائمون على هذه المحطات الشفوية! الـ«بي بي سي» مثلا تعرض أسسها ومبادئها المهنية على موقعها الإلكتروني، فسواء اتفقنا أو اختلفنا معها، إلا أننا نعرف على الأقل ما هي المعايير المهنية الحاكمة لأي مادة تقدم على شاشتها، ونعرف وفقا لذلك أنه من المستحيل أن تعرض الـ«بي بي سي» شريطا مصورا لعملية إرهابية تقول إنه لم يتسن لها التأكد من صحته، وإذا فعلت فإننا نحاسبها كمشاهدين بقوانينها ومبادئها التي نشرتها على الملأ.

قناة «الشفويين» الفضائية تدعي أن «ميثاق الشرف الصحفي»، الذي تبنته منذ عامين هو بمثابة الأسس المهنية التي تعتمدها، وإن سلمنا معها بذلك، فعلى ماذا إذن كانت تعتمد في السنوات الثماني السابقة؟ علما بأن الميثاق لا يعكس أي معيار تحريري يحتكم إليه. إذا أرادت قناة الشفويين أن نحاكمها باعتبارها قناة دولية (كما تدعي) تلعب في كأس العالم، فيجب ألا تتوقع منا أن نتساهل ونحاكمها بقوانين «الكرة الشراب» التي يلعب بها مراهقو الحارات والأزقة.

ولما كان ما يقدمه الشفويون خاليا تماما من أي دقة وحقيقة وحياد، لذا فإنهم يلجأون دائما إلى ما يغطون جهلهم به، فتراهم مرة يلتفون بعباءة الوطنية ومرة بعباءة العروبة ومرات كثيرة بعباءة الإسلام، مدعين أنهم أصحاب الحقيقة المطلقة، الذين لديهم الاتصال المباشر (بالفاكس والإيميل) مع قوى الكون الغيبية، والآخرون هم فقط مجموعة من الخونة والعملاء.

درجت نكتة لاذعة أيام زيارة أنور السادات الشهيرة إلى القدس، مفادها أن الرئيس المصري الراحل خاطب الإسرائيليين بتعال قائلا: «إذا كنتم نور فأنا أنور، وإن كنتم سادة فأنا سادات». (نور هنا تعني الغجر). وهنا أقول لقناة «الشفويين»، التي تلتف مرات كثيرة بعباءة الإسلام: إذا كنتم أصوليين فسأكون أصوليا أكثر منكم، وأقول لكم اتبعوا منهج علم الحديث في نقل الأخبار، من حديث متواتر وأحاديث الآحاد إلى آخر المنهجية الإسلامية المعروفة.. أم أنكم شفويون في الإسلام أيضا!

استوقفني مقال لرئيس تحرير جريدة «الوطن» القطرية، الذي اتهم فيه قناة «الشفويين» بأنها ممنوعة على أصحاب البلاد الأصليين. وتبادرت إلى ذهني صورتان جغرافيتان متشابهتان، الأولى للمنطقة الخضراء في العراق تحيطها القوات الأميركية، والثانية للمنطقة الخضراء الخاصة بقناة «الشفويين» تحيطها القوات الأميركية أيضا.. الفارق الوحيد بين الصورتين هو أن شاغلي المنطقة الخضراء في (عاصمة الشفويين)، يتهمون شاغلي المنطقة الخضراء في العراق، بأنهم حولوا بغداد عاصمة لعملاء أميركا والصفويين.. ترى من العميل اليوم، الصفويون أم الشفويون؟!.. سؤال موجه لرئيس وزراء «الدولة الشفوية».