أسراهم وأسرانا !

TT

مع أنّ إيران أعلنت على لسان رئيسها أنها أطلقت سراح البحارة البريطانيين الـ 15 الذين كانوا محتجزين لديها كهدية عيد الفصح لبريطانيا، ومع أنّ الإطلاق غير المشروط قد قوبل بالارتياح أوروبياً وبريطانياً في البداية وقبل أن يخرج بعض البحارة ليقرأ بياناً مكتوباً عن معاناتهم، فإنّ أحداً لم يتوقّف ليُذكّر العالم بأنّ عدداً من الأعياد الإسلامية قد مرّت هذا العام، وطوال أعوام الحروب والاعتداءات الغربية على العرب، وآخرها مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من دون أن تجد أيا من القوى الغربية التي تحتجز مسلمين ومسلمات في سجونها البشعة، من دون محاكمة أو حتى توجيه تهمة، أي سبب للتفكير بإطلاق سراح هؤلاء الذين تدمى قلوب أحبائهم وأهاليهم لمعاناتهم. وفي الوقت الذي تزداد المفاوضات حرارة بشأن إطلاق الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت، فإنّ أحداً لا يذكر أسماء مئات الأمهات الفلسطينيات والأطفال الفلسطينيين وآلاف الأسرى العرب الذين اختطفتهم وتحتجزهم وتعذّبهم قوات الاحتلال الإسرائيلي بتهمة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي البغيض. وحتى قبل إطلاق سراح الجنود البريطانيين، اطّلع العالم على صورهم يتناولون الطعام وأمامهم الفواكه والزهور، بينما في الوقت ذاته نشرت الصحف صوراً لعراقيين اعتقلتهم القوات الأمريكية في العراق بدعوى أنّهم مشتبه بهم، وعيونهم معصوبة وأياديهم مقيّدة خلفهم، وهم في حالة ركوع مذلّة أمام الحائط. وشتان بين استقبال رئيس دولة لأسرى دولة عدوّة، وبين ما يتعرض له الأسرى العرب، المدنيون منهم والعسكريون، من إذلال وإهانة، وتعذيب حتى التصفية الجسدية. ها هو سجن أبوغريب، وغوانتانامو، ومجزرة الأسرى المصريين على يد كبار قادة إسرائيل، أمثلة على وحشية «الدول المتحضّرة» في تعاملها مع الأسرى العرب.

لن أناقش هنا مسألة الاعتقال، مع أنّه من الواضح أنّ اعتقال مشتبه بهم من دون تقديمهم إلى محاكمة هي حالة وحشية أفرزتها حوادث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) ضدّ العرب والمسلمين وهي خرق للقوانين والاتفاقات الدولية، ولكني سأناقش معاملة هؤلاء بعد اعتقالهم سواء أكان هذا الاعتقال مشروعاً أم غير مشروع. فالفرق بين البحارة البريطانيين وبين العرب الذين تعتقلهم قوات أمريكية أو إسرائيلية في العراق أو في فلسطين، هو أنّ البحارة البريطانيين عوملوا باحترام من دون إهانة أو إذلال، فلم تُوضَع أكياس سوداء على رؤوسهم، ولم تُعصَب أعينهم، أو تُكبّل أيديهم، بينما يبدو الهدف الرئيسي من اعتقال العرب في فلسطين والعراق هو إذلالهم وإهانتهم وكسر عنفوانهم. وما زلنا نذكر صور الجنود البريطانيين وهم يضربون أسراهم من أطفال البصرة، وصور الواقع أشدّ بشاعة بالتأكيد. وليس من قبيل المصادفة أنّ الإعلامي الأمريكي سيمور هيرش وجد أنّ أحد أسباب احتلال العراق الأساسية هو كسر شوكة العراقيين الذين يعتبرون فخر الأمّة العربية حضارة وثقافة وغنىٍ ومعرفةً واعتزازاً. فكيف يمكن للسياسيين الغربيين مثل الرئيس بوش الحديث عن «الدول المتحضّرة»، وهو يتعامل مع الأسرى والمعتقلين العرب بطريقة وحشية لا تمتُّ إلى الحضارة بصلة، لا الآن ولا قبل ألفي عام، أم أنّ نظرته العنصرية للعرب جميعاً وإلى أسراهم لا تُلزمه بالتعامل الإنساني العادل والمتساوي؟ ولذلك فإنّ ردود الفعل البريطانية والغربية عموماً على إطلاق سراح البحّارة البريطانيين بمناسبة أعياد الفصح اتّسمت بالفوقية والغطرسة، خاصّة أنّ التعامل الإيراني مع الجندّية البريطانية كان تعاملاً إنسانياً يليق باحترام المرأة والأمّ، على عكس تعامل القوّات الأمريكية مع المرأة العراقية والتي تكتب اليوم عن معاناتها من الاغتصاب والإذلال والسجن والهوان، ولا نتحدّث عن معاناة المرأة الأسيرة في السجون الإسرائيلية فهذا حديثٌ يطول عن «واحة الديمقراطية الغربية» في الشرق الأوسط! إنّ كلّ اللقاءات التي جرت بعد إطلاق سراح هؤلاء البحّارة تحدثت عن الجنديّ الإسرائيلي الأسير، وليس هناك في «العالم المتحضّر» من يتحدّث عن أحد عشر ألف أسير عربي في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وآلاف غيرهم في السجون الأمريكية العلنية منها والسرّية! وليس هناك من يُذكّر العالم بهم وبمعاناتهم، وبالتّأكيد ليس هناك من يحاول، حتى من العرب، إطلاق سراحهم في أعيادهم كي يعودوا إلى أهلهم وذويهم!

وأتّفق مع الكثير من آراء القرّاء بأنّ هذه المسألة تبدو داخلية قبل أن تصبح خارجية، أي يبدو الخلل عربياً هنا أيضاً قبل أن نلتمس إهمال العالم لمعاناة هؤلاء. فلكي يكونوا حاضرين في أذهان أعدائنا لا بُدّ من أن ننشغل ونشغل الآخرين بمعاناتهم الإنسانية وحقّهم في الحريّة والحياة الكريمة. أين هم المحامون والإعلاميون والمثقّفون العرب، وهيئات المجتمع المدني التي من المفترض أن تدافع عن حقوق المظلومين والأسرى والمعتقلين، والسعي للحرية والديمقراطية؟ يكاد المرء لا يصدّق كيف يتمّ التعامل مع أمة عربية بصفة الغائب عن الفعل والغائب عن الساحة، والغائب عن صناعة الحدث بينما يجمع المحيط الأطلسي على ضفّتيه اهتماماً واحداً بالإنسان الغربيّ ظالماً أو مظلوماً وحيثما كان وحيثما حلّ، وتُجنّد الصحافة نفسها لحمل القضية التي تبرز بأنّها القضية الساخنة عبر المحيط، وهذا يُري وحدةً في التوجّه والهدف حتى على الشرّ والحرب والعدوان. بينما يبدو الإعلام العربي مشتّتا ومنشغلاً بما يصله من أخبار حتى عن الأحداث العربية من دون أن تكون لديه قضية محورية مركزية وموقف واضح ومحدّد منها. ربما السبب في ذلك هو أنّ هذا هو عصر الاختراقات الغربية السياسية، والفوضى المفهوماتية التي تهدّد ليس حرية العرب وكرامتهم فقط بل وجودهم. إنّ البعض يراهن على استقدام المحتلّ الأجنبيّ لأوطانه بذرائع وحجج مختلفة كي يوقع بالآخر الشقيق، أو كي يضمن بقاؤه في سُدّة الحكم لبضعة أيام أو أشهر! ومنذ ما سُمّي عهد الاستقلال لم تُطوّر معظم الدول العربيّة نظاماً متيناً متماسكاً يقضي بقدسية المصلحة الوطنية العليا وبوحدة الصفوف، رغم الاختلاف السياسي، بوجه العدوّ الخارجي. وعلينا أن نعترف أنّ هذا هو الفرق الجوهري بين السلوك الداخلي والخارجي لدولنا، وبين سلوك السياسيين في الدول الغربية، وإن تكن بعض الدول الإسلامية كماليزيا وتركيا قد خرجتا من هذه المجموعة وطوّرتا أنظمة حقيقية سليمة وفعّالة، فإنّ الغالب هو التشتّت والتمزّق. ما لم يدركه الكثيرون في بلداننا عبر الأجيال هو أنّ الأمور الصغيرة تقود إلى الأمور الكبيرة، والذي لم يتعلّمه العرب من الغرب، للأسف، هو هذه الأنظمة الشديدة الدّقّة والقسوة حين يتعلّق الأمر بمصلحة أو مستقبل البلد. ونحن أبناء حضارات عظيمة نفاخر بها على مدى آلاف السنين، نستطيع أن نتوقّف ونمارس النّقد الذاتي كي لا يستمرّ الآخرون في التّجرؤ علينا وعلى بلداننا وعلى أسرانا.

لقد نظر أهالي السجناء والمعتقلين والأسرى العرب بحسرة وهم يراقبون البحّارة البريطانيين يُعامَلون باحترام ثمّ يعودون إلى أهلهم وديارهم بكرامة، بينما يتعرّض أبناؤهم وبناتهم وأطفالهم لأسوأ معاملة تعرّض لها الأسرى حتى في أشدّ العصور وحشيّة. ولذلك لا بُدّ لنا أن ندرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا اتجاههم. تبدو آلة الإعلام العالمية اليوم بعيدة كلّ البعد عن متناول قضايانا، ويبدو إنتاج الفكر والموقف في عالمنا العربيّ مضمحلاً لا أثر له على الساحة الدولية، ونتيجةُ كلّ هذا أنّ أبناءنا وبناتنا الذين يستشهدون ويُسجنون من أجل حرية وكرامة العرب أصبحوا مجرّد أرقام، ولا نحمل حتى قصصهم الإنسانية إلى أعين وآذان العالم، ولا نُردّد أسماءهم حتى يحفظهم العالم في قلبه وضميره ويعمل معنا من اجل الإفراج عنهم كما يتمّ الإفراج عن الآخرين، وحتى يعودوا إلى أُسرهم كما يعود الآخرون إلى ذويهم. وحتى يشعر كلّ منا أننا متساوون في الكرامة الإنسانية مع بقية شعوب الأرض، وهذا ليس أمراً سهلاً، فهو بحاجة إلى وعي وعمل وطني، بعيدا عن الأنا الصغيرة، ومدرك لأهمية مساهمة الفرد المرحلية، وديمومة الأوطان وأهمية عزّتها وشأنها فوق كلّ ذي شأن.