مغامرة بوش أم رهان بيلوسي؟

TT

حاول متابعو الشأن السياسي الأميركي دائماً تشخيص علاقة الحزبين الأميركيين الكبيرين الديمقراطي والجمهوري بالنزاع العربي الإسرائيلي. فالحزب الديمقراطي غدا تدريجياً، وبالذات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، القوة الليبرالية المعبرة عن مصالح الأقليات الدينية والعرقية والفئات العاملة والتقدمية، بينما أخذ الحزب الجمهوري يجسد النظرة البراغماتية المتحمسة للرأسمالية ومصالح الغالبية العرقية والدينية.

وبمرور الزمن صار صعباً الجزم إزاء أي من الحزبين أكثر التزاماً بدعم إسرائيل ضد جيرانها العرب. ولكن بدأت تتضح ناحية واحدة تتصل بتركيبة الحزبين وتمايزهما العقائدي ... هي أن الجمهوريين يدعمون إسرائيل من منطلقات «أميركية» و«إمبريالية» كونها قاعدة غربية متقدمة في منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاستراتيجية، في حين يدعمها الديمقراطيون لأسباب «أقلياتية» (تحديداً يهودية) وليبرالية مثالية تشمل عقدة الذنب عند التقدميين الغربيين حيال اضطهاد اليهود، ولا سيما، المحرقة النازية.

إبان حكم بيل كلينتون وُصفت إدارته بأنها الأكثر تأييداً لإسرائيل منذ قيامها. ثم جاءت إدارة جورج بوش «الإبن» عام 2000 مدعومة بغلاة «الصهاينة المسيحيين» و«المحافظين الجدد» لتبزّ عهد كلينتون بمراحل وتستغل هجمات 11 سبتمبر 2001 فتباشر خياري الاحتلالات وتغيير الأنظمة.

ولكن منذ عام 2000، الذي كان عاماً مفصلياً في مخططات «المحافظين الجدد»، عاشت منطقة الشرق الأوسط أحداثاً جساماً.

ففي يونيو/حزيران توفي الرئيس حافظ الأسد وتولت الدفة قيادة جديدة بادرت إلى إبعاد أفراد «الحرس القديم» عن مواقعهم داخل سورية ... وضرب حلفائهم في لبنان الذي هيمنت دمشق على مقدراته بالكامل تقريباً. وفي سبتمبر/أيلول من العام نفسه تفجّرت «انتفاضة الأقصى»، ثم فاز جورج بوش بانتخابات الرئاسة الأميركية، وفي مارس/آذار 2001 فاز شارون بالسلطة في إسرائيل. ثم يوم 11 سبتمبر 2001 وقعت الاعتداءات على نيويورك وواشنطن، ووفّرت لبوش و«المحافظين الجدد» الفرصة لمحاولة تغيير المنطقة والعالم الإسلامي.

الشق الأفغاني من هذه المحاولة نفذ بحد أدنى من الخسائر، باستثناء ما يقال عن فرار عناصر من «القاعدة» من أفغانستان ومجيئها إلى أماكن أخرى منها العراق بعد غزوه في مارس 2003. أما الشق العراقي فولّد تبعات أمنية وسياسية وطائفية ومعيشية خطيرة جداً ما زالت تردّداتها تلف المنطقة وتنذر إما بشر مستطير ... أو صفقة مزلزلة...!

كما هو موثق كان «اللوبي الليكودي» (أحد أقوى مكونات «المحافظين الجدد») في طليعة الداعين إلى غزو العراق وتغيير نظامه بحجة أسلحة الدمار الشامل «المهددة لحلفاء» الولايات المتحدة. ولقد كان لهذا «اللوبي» علاقات مريبة مع جهات طائفية عراقية صارت المستفيد الأكبر من الغزو.

غير أن شيئاً ما حدث في الساحة العراقية المتفجرة غيّر العديد من المعطيات في واشنطن، حيث انقلب «الليكوديون» فجأة إلى أشد منتقدي «تعامل» إدارة بوش مع تلك الساحة، علماً بأن الهدف «الليكودي» الاستراتيجي من الغزو تحقق فعلاً بتدمير الجيش العراقي وزرع الفوضى الطائفية في العراق.

أما في دمشق فقد ارتأت القيادة الجديدة، إزاء اضطراب الوضع الإقليمي، إحكام قبضتها على لبنان وتمتين علاقاتها الاستراتيجية مع إيران وامتداداتها في الساحة اللبنانية. وهكذا اتخذ قرار تمديد مدة الرئيس إميل لحود الذي عارضته سلفاً وعلناً القوى الغربية الكبرى. وكما هو معروف رُدّ على التمديد بقرار مجلس الأمن 1559، وبعد هذا القرار وقعت يوم 14 فبراير/شباط 2005 جريمة اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ورفاقه في خضم مسلسل اغتيالات بدأ في خريف 2004 ولم ينته بعد.

هذه الجريمة أدت إلى إنهاء الوجود السوري العسكري في لبنان. غير أن ديناميكيات المنطقة وتشابك خيوطها الطائفية والعشائرية والكيدية، وبإزاء صلف إسرائيلي فظيع ومكابرة إنكارية ومرتبكة في البيت الأبيض، سرعان ما أعطت محور دمشق ـ طهران متنفساً ... ليس فقط لفرض «الأمر الواقع» في عدة أنحاء من العراق، بل لمحاولة استعادة زمام المبادرة في لبنان أيضاً.

ومع الأسف، كان يمكن لـ«حرب إسرائيل ـ حزب الله» في صيف 2006 تعزيز مكانة «حزب الله» عربياً ـ وليس لبنانياً فحسب ـ لولا تحويله عداواته إلى الداخل بهدف إسقاط الحكومة، ولولا إصرار سلطة الحكم العراقي على تنفيذ حكم الإعدام بالرئيس المخلوع صدام حسين يوم «عيد الأضحى» في ما بدا انتقاماً وتشفياً لا يخدمان عامل الثقة بين المكونات الطائفية في العراق وخارجه.

اليوم ثمة مأزق في فلسطين و«حرب أهلية» في العراق ومقدمات «حرب أهلية» في لبنان، أما واشنطن فمقبلة على انتخابات رئاسية ستفرض منطقة الشرق الأوسط نفسها عليها مجدداً.

الجمهوريون أملهم الحد من خسائرهم، والتنبيه إلى أنه ليس للديمقراطيين سياسة واقعية واضحة المعالم للمنطقة، وبالذات، حيال أمن إسرائيل والتهديد النووي الإيراني. أما الديمقراطيون فيحاولون استغلال ارتباك الجمهوريين وأخطائهم. ومن هنا يستحيل تجاهل خلفية انتقادات البيت الأبيض عند درس جولة نانسي بيلوسي رئيس مجلس النواب الشرق أوسطية ... التي شملت دمشق.

بيلوسي، طبعاً، لا تلام إذا استغلت ورطة بوش والجمهوريين وحاولت الإمعان في إرباكهم، فطرح البدائل جزء لا يتجزأ من التنافس السياسي داخل الأنظمة الديمقراطية.

وبوش، بدوره، لا يلام إذا أبدى ضيقه من أن تؤدي «انتهازية» الديمقراطيين إلى إضعاف استراتيجيته الإقليمية، فهو الحاكم الحريص على أن تثمر سياساته وتنجح.

والولايات المتحدة، كدولة كبرى، ستظل مهما حصل على الأرض، ومهما كانت تداعيات وضع المنطقة على انتخاباتها الرئاسية المقبلة القوة العالمية الوحيدة. وسيظل نظامها السياسي المؤسساتي منيعاً بحكم طبيعة تداول السلطة الذي يقوم عليه. وحيال القضايا الاستراتيجية فيها لا خلاف بين حزبيها الكبيرين على «الجوهر» بل على «الأسلوب».

إن كلاً من واشنطن وتل أبيب على إلمام كافٍ بنسيج أنظمة المنطقة وطموحاتها وهواجسها، بما فيها إيران. وقد يوجد اختلاف في الأولويات بينهما، ولا سيما تجاه سورية، التي تعارض تل أبيب (وبعض الديمقراطيين الأميركيين) تغيير نظامها، بل تريد وقف ابتزازه المستقوي بطهران.

ولكن إذا استبعدنا ـ ولو جدلاً ـ قبول واشنطن بالتعايش مع إيران نووية ... تصبح دمشق محكومة بخيارين أحلاهما مر، وتصبح الكرة في ملعب حلفاء طهران المطمئنين حتى الآن لمساندة دمشق.

وهنا حقاً ستحسم أرض المنطقة أيهما أجدى لمصالح واشنطن ... مغامرة بوش أم رهان بيلوسي.