عن عواقب أزمة القراءة

TT

ظاهرة تردي أحوال القراءة والعزوف عنها، لا يختلف على واقعها المتتبعون والمهتمون، من مؤلفين وطابعين وموزعين وباعة. ظاهرة تعبر عن فشوها وفداحتها بلاغة الأرقام وحجيتها في سوق الكتاب من كل الأصناف وفي مختلف الحقول والمواد، حتى إن حملات التحسيس التي قد تنظمها موسميا وفي مناسبات وزارات وبعض المؤسسات والجهات لتبدو هي وشعاراتها «عشق القراءة»، «خذ الكتاب بقوة»، الخ عبارة عن صيحات في واد وجعجعة ولا طحينا. إن تلك الظاهرة باتت إذن معطى بنيويا متناميا ينخر المشهد التعليمي والثقافي، ويستدعي دراسات ميدانية وتحليلية، نطلع على بعضها بين الفينة والأخرى في منابر صحافية، أو في تقارير مخصوصة، كالتي صدرت عن الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، فنصعق بكشوفها ونتائجها أو نقابلها بموقف الاستخفاف واللامبالاة. وذريعة بعض من يتبنى هذا الموقف الثاني هي أننا دخلنا زمن ما بعد المكتوب والكتاب، أي زمن الوسائطيات المتعددة من المسموع والمرئي والرقمي وتنكلوجيات التواصل المتطورة الأخرى. وإن كان فضل هذه الوسائطيات لا ينكر في مجال تحصيل المعلومات وتداولها في وقت سريع قياسي، فإننا لا نتثقف بها ولا ننمي الملكات من ذكاء وخيال وذاكرة وحساسية، والتي في نطاقاتها لا تعويل إلا على الكتاب ولا غنى عنه ولا بديل. وبناء على هذا الثابت المؤسس للثقافات الإنسانية عبر كل العصور والأمكنة، لا بد لنا اليوم من أن نضع قيد التأمل والبحث مجمل العواقب المأساوية التي تتمخض عنها أزمة القراءة وتتهدد على نحو سرطاني قنوات التلقين والتواصل وأنسجة الثقافة والمعرفة. ومن ضمن تلك العواقب نسوق اختصارا بعض ما يتسم منها بالتواتر والاستفحال، قاصرين ملحوظاتنا على فئات المتعلمين والمثقفين، وهي الأولى بالأخذ والتدليل:

غلبة «ثقافة» الدفتر (أو الكناش) في مختلف أطوار التعليم، بما فيها الطور الجامعي، أي ثقافة الحفظ عن ظهر قلب لمضامين المقررات، من دون حرص على تجنب طرائق الاختزال والإدغام والبتر، ولا مراعاة شروط الفهم والمجادلة بالاعتماد على أمهات المراجع وكتب التيسير. وهذا واقع ممض يقر به جمهرة المدرسين عن تجربة ومعاينة. وهؤلاء لو قرأت عليهم ملاحظة بذلك المعنى لابن خلدون عن طلبة عصره لقالوا جميعا بجدتها وراهنيتها، وهي: «فنجد طلبة العلم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، عنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة» (المقدمة، ص 545). ويترتب على هذا الوضع في المحصلة تخريج أفواج تلو أخرى من ضيقي الصدور والرؤى، ومن ذوي العلاقات السطحية بل المرضية بالثقافة والانسانيات، والميالين إلى الانطواء على الزاد المعرفي الزهيد الأدنى، وبالتالي إلى اتخاذ مواقف الدوغمائية المتشنجة من قضايا الفكر والسياسة وأمور الحياة والدين، التي لا يطيق حملها وتدبيرها إلا أهل الدراية والمعرفة الواسعة.

ـ انتهاء غالبية ناقلي فنون المعرفة ومدرسيها إلى الاستسلام لأحوال متلقيهم والتكيف معها، وأقلية منهم يقاومونها بأفكار إصلاحية تروم إعادة الاعتبار والمصداقية إلى مستوى التعليم والشهادات بمراعاة شروط الاقتصاد الجديد ومتطلبات سوق الشغل. غير أن هذه الأفكار في المحصلة لا تجد سبيلا إلى تطبيقها بالقرارات السياسية الحازمة والتغطيات المالية اللازمة، فتضعف أمام تيارات الضحالة الجارفة وبؤر الجمود على الموجود.

ـ مع المثقفين والباحثين أيضا، لا يخفى عن عين الملاحظ المتمرس أن ذيول تدهور سوق القراءة آخذة في الامتداد إلى أوساطهم وبث جراثيمها في معاملاتهم وسلوكياتهم. ومن ثم فإن ما تبقى بينهم من قراء متتبعين، الذين لم ينصرفوا تماما إلى تسطيحات الثقافة الصحافية والمسموعة المرئية، بات معظمهم كأنهم لا يقرأون إلا بعيون متعبة، تروم غالبا التمرير والعبور. وأما أصناف النقاد عموما، فمنهم من ظلوا، باسم الموضوعية (وأي موضوعية!) مسيجين بصقيع الطقوس الأكاديمية الثقيلة، وفاقدين بالتالي لكل قدرات اليقظة والتوثب والسجال؛ ومنهم من سلكوا دروب النقد، لا يطلبون فيها إلا العافية والسلامة، إما مخافة تضييع علاقة أو أستاذ، وإما خشية فقدان مورد رزق وتكسب. وهكذا يظل النقد، كثقافة مصاحبة وتقييم، معتل الأداء متعوصه، أو مساهما بطلعاته الاختزالية العجلى في خلق جو ثقافي مهزوز، مليء بالأوهام والحقائق المقلوبة، جو تتحول فيه ما يسمى تجاوزا وفي الغالب الأعم «الفعاليات» و «الأسماء الوازنة» إلى «ماركات مسجلة»، لا يعلم عمن يحيطهم بهالات التوقير شيئا أو سوى النزر اليسير من مكوناتهم ومضامينهم، وبالتالي من الأخطاء وحتى الغش في متون كتاباتهم ومصنفاتهم. وهكذا ندخل في المشهد الذي نحن معاصروه، لنعاين أن اليد الطولى، هي لخطاب الجهل أو المعرفة الأدنى، ولسريان التوهيمات بـ«المعنى السينمائي» وتناسلها، وكذلك لأوهام الحوار المزيف سواء في ما بين مثقفي القطر الواحد أو مع الآخر. ويتبدى هذا الواقع المرير للعين والسمع وللعقل والفؤاد في الندوات والملتقيات، حيث يتجنب المشارك مساءلة زميله إن كان قرأ له شيئا، وذلك مخافة أن يرد إليه السؤال فيعجز عن الجواب ويعكل. أما المضامين والمحتويات فلو نشرت ووضعتها تحت مجهر مراقبة المعلومات والتحقيق في المعنى والمنهج لوجدت في معظمها ما يصدم العارف ويحزنه ولا يفيد البحث والعلم.

على سبيل المثال فقط، كانت السنة المنصرمة 2006 سنة إحياء الذكرى المئوية السادسة لوفاة عبد الرحمن ابن خلدون، وتسنى لي، من باب التخصص، الحضور في العديد من الندوات بمدن عربية وبعضها أوروبية. وما قيل عن فكر ابن خلدون وعن كتاب المقدمة حصرا في غرناطة وتونس والجزائر، وخصوصا في القاهرة والإسكندرية، ليدل بالملموس أن هناك عند نسبة مهمة من الأساتذة والدكاترة مشكل قراءة للنص الخلدوني، وتواصل معه لا ريب فيه، مشكل من صفاته الخمول النظري والتسطيح التحليلي والغفلة، بل العمى عن منطوق النص ومدلولاته المحسوسة. ويبلغ بك الانزعاج منتهاه حينما ترى تلك الصفات كامنة حتى في كلاميات من تعتبرهم «الساحة الثقافية» ولغة الإعلام أسماء وازنة، بل قد يخامرك الشك في كون هؤلاء قد قرأوا حقا لمن يتحدثون عنه وأخذوا نصوصه بقوة التحقيق والجد.

قد نعلل ذلك الواقع بتدني روح المسؤولية العلمية وانحسار وظيفة النقد وتقاعس النقاد عن أداء واجب الفحص المعرفي والتنوير الثقافي، لكن لا يلزم أن يعزب عن بالنا عامل آخر، هو تقديم معيار العلاقات العامة والخدمات المتبادلة على معيار الخبرة والسيرة العلمية. وهذا العامل لهو أيضا من عواقب أزمة القراءة وتداعياتها.

المعرفة المنيرة، المحصلة بقوة البحث والكد لم تعد شرطا عينيا أكيدا عند جمهرة من أهل الكتابة والمجادلة والصحافة. فهؤلاء جميعهم صار يكفيهم أن يدبروا تركيب الجمل وفن ترصيعها بغليظ المفاهيم وغامضها حتى يطلقوا أقلامهم ويستبيحوا النطق في ما يجهلونه تماما أو لا يعرفونه إلا عبر قنوات معوجة أو مهشمة. الخسارات الناجمة عن ذلك كله هي ما نلحظه بالعين المجردة: فقر العقول وضيقها، غلبة التسطيح المعرفي، وبالتالي سوء الإدراك والرصد وعجز عن الفكر ذريع.

في وسط تلك بعض علاته ومعاطبه البارزة الرائجة، التي لا يدركها أولا يأبه بها القيمون على القطاع الثقافي لكونهم مغرقين في تدبير الجمود على الموجود والذود عن مصالحهم الخاصة ومناصبهم المعبرية، في وسط كذلك، تتكاثر تيارات الجذب نحو الأسفل وتتناسل، وكذلك ألسنة التعتيم واللامعرفة، مشخصة في أشباه المثقفين وسماسرة الشأن الثقافي (الذين تعول عليهم غالبية وزارات الثقافة العربية)؛ وفي زمر هؤلاء وأولئك،لا يعدم خابط ورقا ولا مدادا، ولا يسع المثقف الحق إذا ما وجد عرضا بينهم إلا أن يتكيف مع ضحالتهم أو أن يسكت مناجيا نفسه بلسان أبي العلاء المعري: «ولما رأيتُ الجهلَ في الناسِ فاشيا.. تجاهلتُ حتى ظـنَّ أنّي جاهلُ». ما الحيلة والطرائق للتداوي من ذلك الوضع المحزن؟ سؤال كبير يستدعي التفكير الجماعي والعمل المؤسساتي. لكن قبل كل ذلك، يجدر أن نسأل دوما ذواتنا عما ليس لنا به علم، أي عن الخانات الفارغة التي تقبع في أحاديثنا عن هذه النازلة أو ذاك الشأن. ومحاولة الإجابة هي بمثابة الفاتحة في مغالبة اللامعرفة وردع الجهالة السائبة النابحة. وعلى أي حال، يبقى أن الجهد الفردي هو أعز ما يطلب، وتحرر الفرد من الفقر المعرفي أغلى ما يقصد.. أقول قولي هذا وفي قرارة نفسي أنه لن يصل إلى شرائح عريضة من مقتني الصحف، الذين غالبا ما يكتفون بإلقاء نظرة عجلى على عناوينها، وكذلك على فذلكاتها إن تكرموا؛ وهذا لعمري وجه آخر من وجوه أزمة القراءة ومن مفارقاتنا الممضة.

* مفكر وأديب مغربي