القضية الفلسطينية: المستقبل رهن التفاعلات الداخلية لفتح وحماس

TT

بعد اتفاق مكة المكرمة، الذي وضع الحالة الفلسطينية على بداية الطريق الصحيح، وبعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية كنتيجة لهذا الاتفاق المفصلي والتاريخي، فإنه لا بد من نظرة الى الداخل الفلسطيني حيث تتقاسم الحركتان الرئيسيتان حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) النفوذ والسلطة وفقاً لصيغة هشَّة قد تنهار في أي لحظة لتعود الأمور الى ما كانت عليه.

وبداية لا بد من الإشارة الى أن اتفاق مكة المكرمة، الذي جاء تحقيقه بمثابة تحقيق معجزة لم تتحقق في مسيرة مفاوضات «ماراثونية» كان بدأها الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مع قادة «حماس» منذ نهايات ثمانينات القرن الماضي، جاء لينقذ هاتين الحركتين من مآزق دخلت بها كل منهما بعد تفجر الاقتتال في غزة وباتت مواجهات الشوارع بينهما بمثابة حرب أهلية فعلية.

كانت حركة «حماس» قد وصلت الى نهاية طريق مغلق، فهي لم تعد قادرة على الذهاب الى أبعد مما ذهبت إليه وهي لم تستطع حسم الأمور نهائياً وتدمير السلطة الوطنية والحركة المناوئة، وبالمقابل فإن حركة «فتح» بدورها قد اقتنعت باستحالة استعادة الماضي الذي ذهب ولن يعود وأنه عليها أن تعترف بالواقع وأن تذعن للمستجدات التي أصبحت حقائق وأن تقبل بالشريك الذي فرض نفسه بالقوة.

لقد كان التوصل الى اتفاق مكة المكرمة لمصلحة حركة «فتح» ولمصلحة حركة «حماس» وهذا الاتفاق لم يكن بالنسبة للحركة الأولى هزيمة منكرة ولم يكن بالنسبة للحركة الثانية انتصاراً ما بعده انتصار، ولعل ما يمكن قوله الآن بعد ان هدأت النفوس ولم يعد المسلحون، الذين يسيطرون على شوارع غزة، هم أصحاب القرار، ان الرئيس الفلسطيني محمود عباس كان شخصياً بحاجة الى هذا الاتفاق وأن ما ينطبق على (أبو مازن) ينطبق أيضاً على خالد مشعل وعلى إسماعيل هنية وعلى بعض الوسطاء وبعض الشبان المندفعين الذين يعتقدون أن أدوارهم قد جاءت وأن التفاحة غدت بمتناول أيديهم !!.

لم يعد محمود عباس بوضع سلطته وإمكانياتها وبوضع الحركة التي أصبح يتزعمها وهي حركة «فتح» قادراً على تحمُّل ما آلت إليه الأمور وهو أصبح بحاجة الى اتفاق، أي اتفاق، يعطيه فرصة لإعادة النظر بالحسابات كلها ولتجنب الحرب الأهلية التي هي بالنسبة إليه وبالنسبة للشعب الفلسطيني كله أم الكبائر وخط أحمر لا يجوز الوصول إليه حتى لو اقتضى الأمر تقديم تنازلات للغريم الذي ليس من صداقته بدُّ.

وأيضاً فإن خالد مشعل، الذي يحاول أن يلعب اللعبة نفسها التي لعبها ياسر عرفات ليهيمن على المسيرة الفلسطينية من ألفها الى يائها، وجد أن من مصلحته ومصلحة مستقبله السياسي ومستقبل حركة «حماس» الخروج من الإطار الذي هو فيه، والذي أسماه هو نفسه «فسطاط الممانعة» ، وأن يضع نفسه في إطار أكثر اتساعاً ومرونة ليستطيع ان يفعل ما كان يفعله (أبو عمار) الذي كان يفاخر بأنه الأقدر على الجمع بين التناقضات والتعارضات وأنه هو وحده القادر على الانتقال مباشرة من بكين أو موسكو الى مكة المكرمة.

إن هذا هو واقع ما قبل اتفاق مكة المكرمة، وأن هذا الواقع قد سحب نفسه على حركتي «فتح» و«حماس» بكل رموزهما وكل تياراتهما ولذلك فإنه بات ضرورياً استعراض الوضع الراهن لكل من هذين الفصيلين الفلسطينيين اللذين انتقلا من خنادق الاحتراب والمواجهة الى مقاعد الشراكة ومن وضعية العداوة اللدودة الى وضعية الصداقة المفروضة.

وهكذا فإن حركة «حماس»، التي كانت حتى الأمس القريب تعتبر تنظيماً حديدياً يتحدث كله (الخارج والداخل) بلغة واحدة ولا يعاني مما تعانيه حركة «فتح» من ترهل وشيخوخة و«انفلاش» و«انفلات»، أصبحت الآن تبدو على خلاف ما كانت عليه في السابق، فهي، وهذه حقيقة، غدت تعاني من الاستقطابات التنظيمية ومن التكتلات العقائدية والسياسية، وغدا هناك من يصفهم المتشددون بالمفرِّطين والمهادنين ومن يصفهم المعتدلون بالمتطرفين والمتزمتين غير القادرين على قراءة لا المعادلة الإقليمية ولا المعادلة الدولية.

هناك الآن مستجدات داخل حركة «حماس» لا بد من أخذها بعين الاعتبار، ونحن نتحدث عن مستقبل الشراكة بينها وبين حركة «فتح» وأيضاً ونحن نتحدث عن مستقبل الوضع الفلسطيني كله في ضوء إعادة إنعاش مبادرة السلام العربية ومقررات قمة الرياض الاخيرة وهناك وفي الاتجاه ذاته لا بد أيضاً من النظر الى حركة «فتح» من الداخل التي يبدو أنها بدأت تحاول جدياً انتشال نفسها من الواقع البائس والمزري الذي عاشته وبقيت تعيشه منذ رحيل مؤسسها ياسر عرفات الذي هو قائدها الذي كان بلا أي منافس ولم يكن هناك أي قائد بمستواه.

في حركة «حماس» بدأت تظهر منذ اتفاق مكة المكرمة، ومنذ تشكيل حكومة الوحدة الوطنية على أساس هذا الاتفاق، ثلاثة تيارات هي: التيار الأكثر تشدداً الذي يعتبر أن البرنامج الذي تشكلت وفقاً له هذه الحكومة يتضمن تنازلات غير ضرورية وهذا التيار يتمثل أساساً بكل من وزير الخارجية السابق الدكتور محمود الزهار ووزير الداخلية السابق أيضاً سعيد صيام، وذلك في حين ان إسماعيل هنية مع من حوله يمثلون التيار الأكثر اعتدالاً، وأن خالد مشعل يقع في النقطة المتوسطة بين هذين التيارين.

وهنا فإن ما يمكن ان يشكل خطراً على الشراكة المهزوزة أصلاً بين حركة «فتح» وحركة «حماس» هو أن هذا التيار المتشدد هو الأكثر تأثيراً على كتائب القسام التي تعتبر الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية وهو صاحب فكرة تشكيل «القوة التنفيذية» لمواجهة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الوطنية، وهو الأقرب الى بعض التشكيلات المتطرفة الصغيرة ومن بينها «ألوية الناصر صلاح الدين» التي يقال إنها المسؤولة عن اختطاف الصحافي البريطاني في غزة، وعن مقتل رئيس الاستخبارات الفلسطينية السابق موسى عرفات.

وإن المتوقع أن التباعد بين استقطابات حركة «حماس» من الداخل ستزداد اتساعاً في حال انتقال مجموعة رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية من دائرة التردد الى دائرة الحسم بالنسبة لعملية السلام المتوقفة في حال إطلاقها وقد تصل الأمور الى حد الافتراق التنظيمي إذا بدأت حكومة الوحدة الوطنية بدفع الاستحقاقات المطلوبة وفقاً لخارطة الطريق والمبادرة العربية.

هذا بالنسبة لحركة «حماس»، التي انتقل ثقلها من الخارج الى الداخل بعد اتفاقية مكة المكرمة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، أما بالنسبة لحركة «فتح» فإن صدمة الانتخابات التشريعية الأخيرة قد جعلتها تبادر جدياً الى السعي للملمة شملها وإعادة ترتيب صفوفها وآخر ما جرى على هذا الصعيد هو تكليف عضو لجنتها المركزية رئيس الوزراء الأسبق أحمد قريع (أبو علاء) بمهمة التعبئة والتنظيم فيها وهناك اعتقاد بأن هذا المسؤول الفلسطيني الذي يعتبر الرجل الثاني بالنسبة لهذه الحركة بعد محمود عباس (أبو مازن) قادر على تحقيق إنجازات هامة وكبيرة بالنسبة لهذه المسألة.

إن المهمة التي كلِّف بها قريع في غاية الصعوبة وهي على درجة كبيرة من التداخل والتعقيد، فهناك صراع تيارات داخل حركة «فتح» وهناك تزاحم أجيال بين المحاربين القدماء والشباب الصاعدين وهناك نزعات عشائرية وجهوية تلقي بظلالها على المشهد كله وهناك فوق هذا التنافر الشديد بين القادمين من الخارج وبين نشطاء الداخل الذين هم بمعظمهم من خريجي السجون الإسرائيلية.

لا يستطيع أحدٌ إنكار أن حركة «فتح» هي مفجرة الثورة الفلسطينية، وهي الرافعة الحقيقية للعمل الوطني الفلسطيني، لكن وبالمقدار ذاته فإن أيَّاً كان لا يستطيع إنكار أن حركة «حماس» غدت رقماً رئيسياً في هذه المعادلة، ولذلك فإن ما يجب أخذه بعين الاعتبار دائماً هو أن التفاعلات المحتدمة حالياً داخل هاتين الحركتين سيكون لها تأثيرها البالغ على مستقبل قضية فلسطين إنْ على المدى الأبعد او في الفترة القريبة.