السياسة «أنثى».. ويجوز للمرأة أن تختلي بها

TT

أحيانا، في الأسر المغربية، تنصح الأم «العاقلة» ابنتها المتذمرة والشاكية من زوج مزاجي وعصبي بقولها: «بالسياسة»؛ «سايسي زوجك»، أو «سايسي حماتك»، حتى تمضي سفينة الحياة الزوجية، بهدوء وبدون رعود أو عواصف. وثمة إجماع مجتمعي على هذه النصيحة، فرغم إكراهات اليومي التي تحول المرأة إلى برميل نفط قابل للاشتعال في أي وقت، فإن الكل متفق على أن المرأة يجب أن تكون أكثر دبلوماسية وهدوءا ومهادنة في تسييرها لشؤون بيتها وأسرتها حتى تكسب «رضا الزوج» وتتقي «غضب الحماة». إلى حد الآن، تبدو الحياة بلون وردي، والمرأة «نصف المجتمع»، و«وراء كل رجل عظيم امرأة»، و«الأم مدرسة»... وغيرها من الشعارات التمويهية والخطابات الجاهزة التي نهدهد بها الأطفال عند النوم. لكن الأمر يختلف حين تخوض المرأة في العمل السياسي، أو حين تعلن عن رغبتها في المشاركة السياسية، فالفكرة صادمة ومحيرة، والمرأة، هنا، قد تبدو لدى أصحاب الفكر العقيم والمتحجر «ناقصة عقل أو دين» أو «خرجت من ضلع أعوج»، «عورة يجب سترها»، فـ«الولية» التي تعودوا عليها بصوتها الناعم، أو أحيانا بلا صوت، سيجلجل صوتها في ردهات البرلمان، ستقدم مقترحاتها، ستساهم في تدبير الشأن العام، ستؤثر في الوعي السياسي، ستتبوأ المراكز القيادية، ستساهم في اتخاذ القرار، والجسد الأنثوي الملفوف في ثوب الحشمة والعفاف سيرتدي زيا ذكوريا ـ فقط ليبدو أكثر دينامية وحركية في تأدية مهامه السياسية ـ وستصافح الآخرين مصافحة ذكورية أشبه بمصافحة كونداليزا رايس القوية، لكن رغم ذلك لن تتعطل قدرتها على العطاء والحنان وعلى كل المشاعر الإنسانية الراقية والمرهفة، ولن يتحول جسد المرأة السياسية إلى أرض يباب بلا ماء كما يزعمون، فمن قال إن السياسة تتعارض والأنوثة؟ ولا سبيل لإصدار فتوى تمنع السياسة عن المرأة، واعتبارها حكرا على الرجل؛ فالسياسة «أنثى» ويجوز للمرأة أن «تختلي» بها.

لكن الأمر قد يبدو عاديا وطبيعيا بالنسبة لفئات أخرى من أصحاب الفكر المتنور المنفتح، هؤلاء الذين يؤمنون إيمانا راسخا بأن هبوب رياح العولمة والتحولات الكونية التي يشهدها العالم اليوم أصبحت تفرض مساهمة المرأة في كل المجالات لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فالمرأة بالفعل نصف المجتمع، لكنها، للأسف، غدت اليوم أقل من نصف، بعد أن أضحت مستهدفة يوميا في عمليات إرهابية، وفي عمليات قتل جماعي لا يفرق بين امرأة وطفل وعجوز، عمليات قتل بدعم أمريكي لا يتوانى في كل مرة عن إصدار إعلانات الأمم المتحدة، التي تنادي بحقوق الإنسان وبتحرير المرأة ورفع كل أشكال الحيف والتمييز ضدها ومنحها كامل حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

فلا سبيل للحديث عن تنمية شاملة بدون مشاركة فعلية للرجال والنساء معا. وخوض المرأة غمار العمل السياسي لا يعبر فقط عن نجاح الحركة النسائية في تحقيق مكاسبها السياسية بعد تاريخ نضالي طويل بنته المرأة المغربية حجرا حجرا طيلة سنوات مضت، وإنما يعكس المناخ والوعي السياسي العام السائد في تلك الدولة.

ومؤخرا، شهد المغرب هبوب نسائم الحرية والانفتاح السياسي والديمقراطي، في ظل ملك شاب أطلق عليه الشعب المغربي «نصير المرأة الأول»، هو الذي منذ تربعه على العرش سنة 1999 وإشراقات الأمل تلوح في أفق انتظارات المرأة المغربية، بعد أن كان مسدودا وباهتا. ففي سنة 2002، صعدت 35 امرأة مغربية إلى البرلمان في إطار نظام «الحصة النسبية»، كما أعلن الملك عن عدة تدابير تروم إصلاح «مدونة الأسرة»، وإنشاء محاكم خاصة للأسرة، كما أصبح بإمكان المرأة المغربية أن تمنح جنسيتها لأبنائها في حالة ارتباطها بزوج أجنبي...

لذا، وبعد كل ما حققته المرأة المغربية، هل ما زالت مشاعر الخوف والارتباك تلف أفق انتظارها؟

إن الصورة النمطية للمرأة العربية والمغربية على وجه الخصوص، والتي يتم ترويجها في الإعلام العربي وفي المسلسلات العربية وفي المناهج التعليمية، ما زالت تطاردها إلى الآن، حيث تبدو المرأة، في معظم الأحيان، كائنا لا يفقه شيئا في السياسة، تتذمر من حديث الزوج في هذا المجال، ولا تنتشي إلا حين تتحدث عن الماكياج أو آخر صيحات الموضة، وشغلها الشاغل هو إيجاد مسحوق فعال للتنظيف يدخل البهجة والسرور على الزوج والأبناء، وصورة أخرى يتم ترويجها للمرأة العربية، هي صورة الفنانة والممثلة وعارضة الأزياء؛ صور يتم استخدامها كمثل أعلى لشبابنا في المجتمع العربي، في حين يتم التعتيم إعلاميا على المثقفات والسياسيات والمناضلات والكاتبات. كما أن استمرارية سيادة مجتمع بطريركي لا يمكن أن يتقبل بسهولة المشاركة السياسية للمرأة وولوجها لمراكز القرار؛ ناهيك عن فقدان الثقة في السياسة والسياسيين الذين أرهقوا الكل بخطاباتهم الرنانة، بشكل جعل الكل ينصرف عن السياسة، أعني الرجال والنساء معا، ممن غدوا يسمعون جعجعة ولا يرون طحينا، وإن كانت هناك محاولات مؤخرا لتحسين صورة المرأة في الإعلام المغربي، سواء المرأة المثقفة أو السياسية أو العاملة أو البسيطة، حيث تبدو في الحملات الإشهارية للاستحقاقات الانتخابية المغربية المقبلة أكثر نضجا ووعيا، وتعرف فعلا ما عليها فعله حتى تساهم بفعالية وإيجابية في الانتخابات القادمة.

وعلى العموم، فليهنأ كل من شكك في قدرة المرأة على إتقان اللعبة السياسية، وأتحدث هنا عن الرجال والنساء معا. فحتى بعض النساء، اعتبارا لفقدان الثقة في النفس الذي تربين عليه، مازلن يشككن في قدراتهن، ولا يشجعن بعضهن البعض على المغامرة السياسية، وليسعد كل من يسعى للف المرأة في كفن الصمت باسم الدين، مؤيدين ما قاله أرسطو، نقلا عن سوفكليس، إن «الصمت المتواضع هو تاج المرأة»، وكل من يعتبر مطالبة المرأة بحقوقها السياسية مطلبا هجينا، وخطة أجنبية مدسوسة من جهات أجنبية لزرع الفساد، فليهنأوا جميعا؛ فرغم جدارة المرأة المغربية وحنكتها السياسية فإن مشاركتها ظلت محدودة بحقائب وزارية غير مؤثرة، وكلها تدور في حلقة المرأة والأسرة والطفولة والمعاقين والهجرة، كما أنها لم تحض بعد بفرصة تدبير الشأن الحزبي رغم أن الفصل الثامن من الدستور ينص على مساواة المرأة والرجل في الحقوق المدنية والسياسية، والتجربة الفرنسية التي اعتمدت هي أيضا نظام «الكوطا»، ربطت الدعم المالي الذي تقدمه الدولة للأحزاب بنسبة حضور المرأة في هذه الأحزاب.

فما حققته المرأة من مكاسب يخفي في كواليسه ألما خفيا تستشعره المرأة السياسية لكنها لا تبرزه، حفاظا على ماء وجه الحركة النسائية المغربية، أحزاب وقيادات شجعت المرأة المغربية على خوض المعترك السياسي، لكنها لا تتوانى، في الآن نفسه، عن فرض وصايتها بحكم «فضلها» عليها. غير أن الشيء الذي يجب عدم تجاهله، هنا، هو أن هذه القيادات لم تصنع التاريخ النضالي للمرأة المغربية الذي خاضته بعزم وثبات منذ حصول المغرب على الاستقلال، وبلغ أوجه مع حلول التسعينيات من القرن الماضي، اختراق سياسي نشيط للمرأة المغربية بتياراته الليبرالية والإسلامية، بعيدا عن كل صراع إيديولوجي أو لا توافق، وتركيز لبؤرة اهتمامها على إصلاح أوضاع المرأة والمجتمع المغربي عموما، بدون التنازل أو التفريط في قيمنا الدينية أو الوطنية. مسيرة نضالية ستستمر بصلادة وجرأة كما عهدناها دائما، ولن تسقط عند أول زخة مطر ولن تكل أو تمل، وقد نفاجأ يوما بـ«امرأة حديدية عربية».

ونحن على أبواب الانتخابات التشريعية، تبدو المرأة السياسية المغربية متذمرة، هذه المرة، ليس من زوج «مزاجي»، بل من قانون انتخابي مجحف، صودق عليه من البرلمان بمجلسيه، قانون أوقف عقارب الساعة عند سنة 2002، حيث أبقى على مبدأ الكوطا، لكن بالاقتصار على تمثيل حزبين أو ثلاثة، وهو أمر لم ترض عنه المرأة السياسية المغربية، وخصوصا أنها تطمح دائما إلى المزيد، وإلى المضي بعجلة حقوقها السياسية إلى الأمام.

فالأهم هو درجة تأثيرها وحضورها، حتى وإن حصلت على مقاعد محدودة، والأهم كذلك هو تقلدها لمناصب هامة تتخذ فيها قرارات حاسمة بدون الرجوع إلى أية وصاية، مناصب لا تدور في فلك المرأة والأسرة والطفولة فحسب، بل حول كل ما من شأنه تحسين أوضاع المجتمع... رغم أنني على يقين من أن إصلاح وضع المرأة المغربية ليس شأنا نسائيا فقط، بل هو هم مجتمعي ينوء بحمله كل أطياف المجتمع بدون استثناء.

* كاتبة من المغرب