هل يكون لبنان ثالثهما؟

TT

يبدو اللبنانيون للناظر عن بعد وكأنهم ينزلقون، عن قصد أو غير قصد، نحو حكم عسكري.

وهذه الملاحظة تطرح نفسها بنفسها بمجرد أن يمارس أي مراقب سياسي ما يعرف في عالم المنطق بتجربة «تمحيص وحذف» (Process of Elimination) في عملية تعداد للمؤسسات الرسمية التي لا تزال فاعلة في «الجمهورية اللبنانية»، وفي تسمية السياسيين الذين لم تتطاول عليهم بعد الحملة الاعلامية الشرسة المرافقة للأزمة اللبنانية.

تجربة بسيطة كهذه من شأنها أن تظهر التالي:

* في ظل رئاسة جمهورية مغيبة ومجلس نيابي مصادر ومجلس وزراء محاصر ... مؤسسة واحدة فقط ظلت محتفظة بحرية الحركة في لبنان ـ هي المؤسسة العسكرية.

* في سياق حملة تشويه ونقد منظمة لكل السياسيين لم تسلم سوى قلة قليلة من الرسميين من التجريح، وفي مقدمتهم قائد الجيش ـ وان لم ينج من بعض سهامها.

* في أعقاب إلغاء المعارضة والموالاة «شرعية ودستورية وميثاقية» بعضهما البعض بقيت مؤسسة رسمية واحدة فقط غير مطعون بشرعيتها ـ حتى الآن ـ هي المؤسسة العسكرية.

ألا تبدو هذه التطورات وكأنها تمهيد ـ مقصود أو غير مقصود ـ لإلغاء الحكم المدني لصالح حكم عسكري؟

اللهم ليست دعوة الى «تدخل» العسكر في الشأن السياسي اللبناني الذي ينوء بكثرة «المتدخلين» من الداخل والخارج... ولكن بعد ان «تعطلت لغة الكلام» بين المعارضين والموالين أصبح من حق اللبنانيين التفتيش عن جهة صالحة للتكلم معها عن شؤونهم وشجونهم، كما أصبح من حقهم ايضا التفتيش عن «حَكم» لتلك المباراة المملة بين الموالاة والمعارضة، خصوصا انها مرشحة لأن تستمر سنتين ـ حسب «تطمينات» السيد حسن نصرالله ـ رغم علم الجميع بانها لن تسفر عن غالب أو مغلوب في بلد لا تزال خطوط التماس المذهبية حدود طموحات سياسييه والتوازنات الدولية والاقليمية سقف تحركهم.

ربما بدا المتطلع الى المؤسسة العسكرية للعب دور «الحَكم» ـ وأن المؤقت ـ في نزاع ظاهره لبناني وباطنه إقليمي ـ دولي كالمستجير من الرمضاء بالنار.

ولكن بعد ان عزّ ايجاد الحَكم الداخلي المقبول، وبعد أن أصبح اللبنانيون مطالبين بتنظيف غسيلهم الوسخ بأيديهم، قد تكون الدعوة الى قيام مرحلة انتقالية بـ«رعاية» عسكرية محددة بفترة زمنية متوافق عليها بين السياسيين والعسكريين، المخرج المتاح لتجاوز عقدة النفق المسدود وفك ارتباط أزمة الداخل بالتحولات الاقليمية، فتبدأ هذه «الرعاية» بملء سدة الرئاسة اللبنانية، مؤقتا، وبالتركيز على انجاز المطالب الداخلية الملحة وفي مقدمتها وضع قانون انتخاب أفضل تمثيلا للبنانين، ومن ثم الاشراف على انتخابات برلمانية نزيهة يؤدي العسكر بعدها قسطهم للعلا ويعيدوا الامانة للاكثرية المنبثقة عن هذه الانتخابات.

إلا أنه منذ ان حددت المقولة التراثية «المستحيل» بثلاث ... ورابعها تخلي العسكر عن السلطة في حال وصولهم إليها. وقد تكون هذه الظاهرة ـ المخاطرة المأخذ الجدي على هذا الاقتراح.

ولكن إذا كان تاريخ العالم حافلا بسيرة الجنرالات الذين نفذوا انقلابات عسكرية «مؤقتة» ليصبحوا حكاما بأمرهم مدى الحياة (وحتى مدى ما بعد الحياة عبر نظام الدكتاتورية الوراثية) فقد شهد العالم العربي ظاهرتين لافتتين يجوز البناء عليهما للتفكير بحكم عسكري توافقي في لبنان مرهون بفترة زمنية محددة:

* ظاهرة المشير السوداني عبد الرحمن سوار الذهب الذي قاد انقلابا عسكريا في الخرطوم عام 1985 وتقلد رئاسة المجلس الانتقالي الى حين قيام حكومة مدنية منتخبة. بعد ذلك بسنة واحدة، وفي بادرة لم يعهدها التاريخ العربي المعاصر، سلم السلطة للحكومة المنتخبة ديمقراطيا واعتزل العمل السياسي... ولا يزال.

*ظاهرة العقيد أعل ولد محمد فال الذي قاد انقلابا عسكريا في موريتانيا عام 2005 وتسلم الحكم لنحو سنتين كرئيس للمجلس العسكري. وفي مارس (آذار) الماضي لم يكتف بإيفاء وعده بإعادة الحكم للمدنيين وتسليمه للرئيس المدني المنتخب ديمقراطيا (ولد الشيخ عبد الله) بل اكد ان الرئيس المنتخب سيكون القائد الاعلى للقوات المسلحة الموريتانية.

استثناءان تاريخيان لدور الحكم العسكري في تكريس الديمقراطية لا إلغائها... حبذا لو اقترنا باستثناء ثالث في لبنان هذه المرة.