ليبراليون بلا عقال!

TT

العقال في اللغة: هو الحبل الذي تشد به يد البعير بعد أن تثنى إلى ركبته، وهو يستعمل للإبل فقط، ومنه قول الصحابي أبي بكر حين امتنعت العرب عن أداء الزكاة بعد وفاة النبي: لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. إلا أن المراد به في هذه المقالة هو ما يلبس فوق الرأس في أكثر بلدان الخليج وحتى في الأردن وفلسطين.

يحكى أن العرب لبست العقال وكان عمامة سوداء بعد سقوط غرناطة حزنا على الأندلس، هذه الأسطورة ـ على ما فيها من حماس انثروبولوجي ـ تحكي أن لبس العقال كان محملا بالدلالات منذ لحظته الأولى.

لبس العقال في السعودية أيضا لا يخلو من الدلالات؛ فلو تتبعنا الصور الفوتوغرافية المتوفرة لمن أدرك التصوير من مشايخ الدعوة فلن تجد «متعقلا» واحدا، لكن وحده الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله (ت 1956) صُور بالعقال لكنه امتداد لمدرسة دينية أخرى تتميز داخل المدارس النجدية الدينية بقدر من الانفتاح. لم تكن هناك فتوى بتحريم العقال، بل يروى أن الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله (2001) عندما سئل عن العقال أفتى بالجواز، ولبسه هو شخصيا لبضع ثوان، وكان ذلك في درسه الفقهي الرمضاني في الحرم الشريف. لكن التقليد جرى ان لا يلبس «رجال الدين» العقال. غير أنه وفي حقبة «الصحوة» استقر التقليد على أن يلبس المتدينون من مهندسين وأطباء وعامة الناس العقال. واستمر التقليد أيضا على أن طلبة العلم الشرعي والمشايخ لا يلبسونه. وبمعنى آخر فان عدم لبس العقال هو سلوك في الزي الديني يماثل لبس القفطان والعمامة في قاهرة المعز، أو قل هو إعلان ذاتي صارخ بالصدور عن حالة دينية ومطالبة للآخر بالتعامل من هذا المنطلق، وأكثر من ذلك هو باختصار إعلان عن «المشيخية قيد التطوير» في حق طالب العلم أو «المشيخية المتحققة» في حق من أنهى مرحلة الطلب. وإذا كانت المعاني تعرف بالأضداد فان عدم لبس العقال في السعودية هو تصعيد في إعلان المشيخية، يقابله حلق الشارب الذي هو، وفي إقليم نجد تحديدا، إعلان وبصوت عال عن حالة ليبرالية.

المشهد الثقافي السعودي ـ على ما فيه من سكون في السنتين الأخيرتين ـ يشهد تحولات كبرى، ومن المؤكد أننا بعيدون جدا عن نسخته الأخيرة. الأكيد أننا إذا استثنينا كتابات بعض الكتاب مثل الأحمري، إسلاميا، أو الدخيل، ليبراليا، فإن المشهد يحكي ما يمكن وصفه بمرحلة «المحافظة السياسية» قياسا على «المحافظة الاجتماعية» التي دشنتها الحقبة الريغانية في أمريكا. المشهد باختصار هو الظروف الجديدة، هناك أولا بداية عهد جديد في القيادة السياسية. يعلن هذا العهد أن الإصلاح الشامل هو أولويته وهمه الأهم، وهناك أيضا ظروف قيادات التيار الإسلامي المجهدة بأتعاب التسعينات، وبعده املاءات 11 سبتمبر 2001، وكذلك تفجيرات مايو 2003 في الرياض، كل هذه المتغيرات أكدت لقيادات التيار الإسلامي أن الهدف الأول هو الحرص على النأي بالنفس والتيار عن أحداث العنف، والمحافظة على الإمساك بما تبقى من الانجازات والمكاسب. وربما كان الحماس في هذا الاتجاه تجاوز ما هو مطلوب أصلا، وأكثر مما توقعه السياسي كما في جهود محاولة الوساطة بين القاعدة والحكومة التي انبرى لها بعض رموز الإسلاميين ولفظت من كلا الجانبين. وربما تجلى ذلك أكثر باللقاءات التلفازية الشهيرة التي قادها الشيخ القرني مع المتراجعين من رموز السلفية الجهادية.

الانكفاء قليلا والترقب، وشيء من الانفتاح والحوار مع الآخر وقليل من نقد الذات كان الخيار الذي ارتضاه فريق آخر من الإسلاميين. في مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد بمكة (2004)، فجر مثقفان إسلاميان مفاجأة نقدية من خلال تقديم ورقة في نقد التعليم والمناهج الدينية حظيت باستقبال وترحيب قطاع واسع، خلص الشيخان في ورقتهما إلى أن المناهج الدينية لا تخلو من بذور ربما ساهمت في زراعة التيارات التكفيرية في السعودية، لم تكن مفاجأة الورقة ـ في تقديري ـ في محتواها، وان كان غاية في الأهمية، المفاجأة الأبرز أن نقد المناهج التعليمية قامت به هذه المرة شخصيات إسلامية معروفة، لمنطقة يعتبرها الإسلاميون من مناطق النفوذ التقليدية، اعني المؤسسة التعليمية. الذي حدث فيما بعد أن الردود الحادة والنقد الهجومي من قبل التيار الإسلامي حدا بأصحاب الشأن ـ أعني المؤلفين ـ إلى تقديم أكثر من توضيح في منابر إسلامية، كانت التوضيحات تنادي أن إصلاح المناهج حاجة وطنية ماسة ولا علاقة لها بالأجنبي.

ردة الفعل العنيفة تجاه ورقة المناهج والخطابات الموقعة من رموز إسلامية ترفض الحديث عن تطوير المناهج أخبرت شيئا واحدا: ان العملية لا يحكمها الدليل الشرعي ولا الحجة العقلية، وأن العمل داخل التيار الإسلامي هو حسابات معقدة تتصارع فيها قوى كثيرة، الأمر الذي يعني أن السلطة السياسية، وإن كانت طرفا مهما، فهي ليست كل القصة، تبين أن القصة أعقد ربما من المخلص الأسطوري الذي صوره الكاتب الإسلامي محمد الأحمري في مقاله الشهير «مجرد شخط على ثوب»، صورة ذلك الأشعث الأغبر ـ وهذه زيادة من عندي ـ بلا ولد ولا مال يحمل لحافه «مستسجنا»، فليس الخوف من السلطة فقط هو ما يمنع نشوء ظاهرة أصحاب الألحفة، بل الخوف من «السلطات»، متعدد، وله أكثر من صورة، فهناك سلطة الشارع، وسلطة الشلة، وسلطة المؤسسة الدينية، وحتى سلطة الفضاء العنكبوتي، الانترنت. هذه السلطات وان كانت لا تملك التحويل إلى حالة ارتداء اللحاف، أعني الاستسجان، فهي تملك أشياء كثيرة، ومن شكك في قوة هذه السلطات فعليه أن يتذكر التراجعات السريعة كما في حالة الشيخ القرني وكلامه حول قيادة المرأة للسيارة، وكما في حالة الشيخ المطلق ومسألة الحجاب.

لم تتكرر ظاهرة ورقة المناهج مرة أخرى، الذي حدث فيما بعد أن الرموز الإسلامية التي ربما كانت تنوي شيئا من الانفتاح اضطرت إلى البحث عن خيارات أخرى، وتوجه فريق من الإسلاميين إلى الفضائيات يحكون أشياء كثيرة، عن التطوير الذاتي وعن الإعجاز العلمي والتشافي بالقرآن، صارت الصحوة اكبر موزع للبرمجة اللغوية العصبية NLP وأكبر مستهلك لها. هوس برامج التطوير الذاتي أصبح الهم الأول لمن عرفوا سابقا بطلائع الأدب الإسلامي وحماته، وقد لا يكون تجنيا القول ان لا فرق يذكر بين برامج الأحاديث الدعوية في الفضائيات العربية وبين أحاديث الصباح في التلفزيون الأمريكي، فأساليب من كان قبلنا أساليب لنا. حتى فرويد استدعي على يد احدهم في محاولة لقراءة نفسية لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لإبهار جماهير جديدة دونما إدراك للتبعات الكارثية في إحضار مناهج التحليل النفسي إلى السيرة المطهرة.

أصبح الإسلاميون أكثر معرفة ودراية بالآراء التي «تبيض» وتفرخ جمهورا، وبأقل التكاليف، ولأنهم يدركون أن الحركة الإسلامية هي في النهاية حركة اجتماعية وسياسية وليست حركة علمية، فلا بأس إذن ـ من هذا المنطلق ـ من برجماتية حتى في مجال الفتوى. نعرف أنه هناك نشأت مسالك فقهية تحكي جمودا فقهيا في قضايا المرأة، وآداب الحسبة، وحقوق المواطنة ومفهوم العدل والمساواة، بالمقابل وفي المسلك الآخر تجد تطورا فقهيا حتى درجة التورم يشرع لرأسمالية حمراء لقطاعي الأعمال والبنوك، لن تجد إسلاميا واحدا ناقش قضايا المرأة ولا بنصف المهارة أو ربع النفس التيسيري الذي يسلكه عندما ينظر في قضايا المال والسوق.

في الجهة المقابلة فان الوسط الليبرالي السعودي أصابته الانتخابات البلدية الأولى في موجع، إذ كانت نصرا جليا لتجمعات الإسلاميين والعشائريين، أفقدتهم ـ اعني الليبراليين ـ الثقة بشعبيتهم. ومن المؤكد أن أكثر التغيرات السياسية في منطقتنا لم تأت بما يخدم خطابهم، خذ مثلا فشل المشروع الأمريكي في العراق وكانوا قد أسرفوا في مباركته، ثم ما ترتب عليه من انبعاث للخطاب الطائفي أدى إلى تردد وأحيانا تراجعات في طبيعة موقفهم الرافض عادة للطائفية.

إلى جانب هذا فالتيار الليبرالي السعودي في عمومه ـ مع بعض الاستثناءات ـ لا يعرف التراث الإسلامي جيدا، ولا يملك أدوات السجال المنهجي مع أصحاب الخطاب الديني. وهو بذلك مختلف تماما عن الحركة التحررية في مصر أوائل القرن العشرين والتي أدركت حينها أهمية هذا الجانب. وهو أيضا مختلف عن الحركة الفكرية الجادة في المغرب العربي. في وسط هذا المشهد بل وفي دوامته، اكتفى الليبراليون السعوديون بالتصفيق لكل بادرة. مثلما بشر أحدهم يوما «بالعبيكانية» وآخر «بالأحمرية». ولا يعرف القارئ السعودي موضوعا اتفق فيه الليبرالي السعودي المحافظ سياسيا والليبرالي الآخر غير المحافظ، إلا «لبْرَنة» الشيخ العودة. هم أي الليبراليون يدركون عمق المشكلة، مشكلة أن لا فقيه بينهم، وأن المخلص القادم يجب أن يكون ليبراليا بلا عقال.

* كاتب سعودي

[email protected]