موسكو تحاول استعادة دورها الضائع

TT

من الواضح ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين راغب في ان يكون لبلاده دور في الوضع الراهن في الشرق الاوسط، إلاّ ان الرجل إما متردد، وإما ان قراره مُصادر، وإما أنه ينتظر.

في حال افترضنا انه متردد يكون السبب هو أنه ما زال لم يكتسب الشعبية الكبرى في روسيا لكي يغامر ويتحول قيامه بالدور الى مغامرة لا جدوى منها.

وفي حال افترضنا ان قراره مصادر يكون السبب هو أنه ورث من سلفه يلتسين اتفاقات ومواثيق مع الولايات المتحدة من بينها ما قد يكون سرياً ويقضي بعدم إقلاق اللاعب الاميركي الذي يمارس دوره وحيداً. والإقلاق بمعنى ان يدخل اللاعب الروسي على الخط فيَحدث صِدام او اصطدام. وفي الحالتين لا تريد اميركا مثل هذا الامر. ولا تريد روسيا من جانبها تحدي عدم تفهُّم الرغبة الاميركية.

وفي حال افترضنا ان الرئيس بوتين ينتظر حدوث أمر ما فهذا يجعلنا نعتقد أن الرجل، وهو الخريج الموهوب والشاطر من مدرسة المخابرات الروسية «كي. جي. بي»، يرصد بذكاء التحرك الاميركي والتخبط الذي تتسم به السياسة الاميركية في المنطقة العربية، وفي الوقت نفسه يتدخل وبكثير من الرفق في شؤون القضايا العالقة ومنها بالذات ما يتعلق بالازمة الساخنة بين الفلسطينيين واسرائيل. كما انه، وهو يرصد، يعزز قنوات الاتصال مع الدول العربية المعنية اكثر من غيرها بتلك الازمة. ولعل اهم اتصال جرى حتى الآن هو ذلك الذي قام به يوم الثلاثاء 29/5/2001 وزير الخارجية السابق يفغيني بريماكوف الذي خرج مبهوراً من اجتماع عقده في دمشق مع الرئيس بشار حافظ الاسد، بينما وزير الدفاع العماد مصطفى طلاس انجز في موسكو نتائج طيبة على صعيد التسليح بالجديد، وايضاً تحديث السلاح القديم. وهذا الانجاز تم بصمت وكما لو ان زيارة العماد طلاس انما هي زيارة مجاملة او للعلاج على نحو علاج الاطباء السوفيات للرئيس جمال عبد الناصر في مصح «تسخا لطوبو» الشهير.

في الاطار نفسه يجيز المرء لنفسه الافتراض ان الرئيس بوتين ينتظر ايضاً ان تطرق زعامات منطقة الشرق الاوسط ابواب الكرملين بقوة الطرق نفسه في الزمن الذي كان الاتحاد السوفياتي مُهاب الجانب من اميركا واوروبا وموئل الزعماء العرب ومعظم زعماء دول العالم الثالث. وحتى الآن زار موسكو الرئيس الايراني محمد خاتمي والرئيس المصري حسني مبارك والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة. وهنالك ترتيبات لزيارة تاريخية سيقوم بها الرئيس بشار الاسد، وزيارة اخرى تاريخية سيقوم بها العقيد معمر القذافي، فضلاً عن ان زيارات الرئيس ياسر عرفات متواصلة. ولكن زيارات القادة الذين اشرنا اليهم ليست بالحماسة التي تجعل الرئيس بوتين يتخذ قرار التعاطي الفعال مع قضايا الشرق الاوسط من الجولان الى العراق الى ايران، مروراً بالقضية الاهم: الأزمة الفلسطينية ـ الاسرائيلية. فالذين زاروا موسكو لم يطرقوا باب الكرملين بالقوة المطلوبة، وإن كان الرئيس خاتمي ومن بعده الرئيس مبارك فتحا مع الرئيس بوتين ملفات نووية، وجاء فتح الملفات بمنطلقات مختلفة. فالرئيس خاتمي يريد تطويراً للعلاقات مع روسيا وكان صريحاً في ابلاغ الرئيس بوتين ان ما تحتاجه ايران هو العلاقة المتوازنة والوقفة الثابتة عندما تدعو الحاجة، وان هذه العلاقة تحتاج الى الصديق المتفهم الذي يقوم بتأمين طلبات صديقه. وبالنسبة الى ايران فإنها وفي ضوء تداعيات حربها مع العراق، وكذلك في ضوء استحكام عداء اميركا لها على رغم انها فتحت نوافذ كثيرة بهدف بناء علاقة على اساس حوار جدي وايجابي، ومواصلة احتجاز اموالها، وتشجيع الجماعات المعارضة للثورة... إن إيران في ضوء هذا كله، وليس بهدف بناء القوة التي تهيمن من خلالها او تخيف الآخرين، تشعر أن امنها مهدد، وأنه من دون ان تصبح دولة نووية وقوية عسكرياً لن تشعر بالأمان. كما ان خاتمي كان واضحاً كل الوضوح بأن بلاده متمكنة مالياً بحيث تستطيع تسديد كل فواتير الطلبات ومهما بلغت اصفارها. وهو بهذا اراد ان يُسيل قليلاً لعاب الرئيس بوتين الحائر في الطريقة التي تمكِّنه، اذا هو اعتمدها، من انقاذ الشعب الروسي من الضائقة الاقتصادية والمعيشية، واعادة الهيبة الى الدولة التي تستطيع اطلاق اقمار الى الفضاء وخوض سباق السيطرة على هذا الفضاء، إلا انها غير قادرة على تأمين العيش الكريم لشعبها الذي ليس بعيداً كثيراً عن خط الفقر والعوز، باستثناء طبقة المافيات التي تعيث إفساداً في الحياة العامة. لكن في الوقت نفسه ان الثورة الايرانية وهي تحاول إسالة اللعاب الروسي ترى كذلك ان على روسيا ان تكون عادلة في حال قررت اتخاذ الوقفة الثابتة وتلبية الطلبات العسكرية والتجاوب مع الطموحات النووية، أي بما معناه لا تعطي العراق اكثر مما ستعطي ايران لأنها بذلك تكون تمارس الدور الذي يتسم بالتلاعب.

وما قاله خاتمي قاله العراق لروسيا عبر طارق عزيز نائب رئيس الوزراء عندما زار موسكو، وقاله الرئيس صدام في بعض استقبالاته لمسؤولين في الحكومة الروسية زاروا العراق... وقاله مستنداً الى الورقة القوية نفسها وهي ورقة القدرة المالية التي تتطلع اليها روسيا الباحثة عن حل جذري لمشكلتها الاقتصادية التي لم ولن تحلها لها اميركا لاعتبارات كثيرة.

ومن الجائز الافتراض ان الرئيس بوتين عندما قرر متأخراً ضخ بعض الحيوية الى همته وارتأى ايفاد مبعوث الى منطقة الشرق الأوسط، فعلى اساس انه امضى بعض الوقت يتأمل في الوضع المتردي في تلك المنطقة، وكيف ان الشكوى من اميركا تزداد انتشاراً في صفوف الحكام من الرئيس بوتفليقه في الجزائر الى الرئيس خاتمي في ايران مروراً بالرئيس حسني مبارك والرئيس بشار الاسد. وبعد التأمل بدأ يسأل نفسه: ان بين ايادي هؤلاء القادة وآخرين غيرهم المواقع الاستراتيجية المهمة والثروات الكبيرة الموضوعة تحت اليد الاميركية. ولا يحتاج الأمر سوى الى من يرفع اليد الاميركية قليلاً عن ايادي اولئك القادة. ولن يكون هنالك وقت مناسب افضل من هذا الوقت.

الى ذلك من الجائز الافتراض ان الرئيس بوتين وفي ضوء التأمل الذي اشرنا اليه أوكلَ الى وزير الخارجية السابق يفغيني بريماكوف مهمة ان يكون كبير مهندسي التلاقي مع الحكام الذين تخيب آمالهم يوماً بعد آخر باميركا. ويبدو اختيار «زميلنا» في «الشرق الأوسط» بريماكوف دون غيره هو الاختيار الذكي على اساس ان الرجل يعرف المنطقة تماماً، بل ويعرف اضافة الى ما هو على السطح بعض ما يحدث في كواليس ودهاليز دواوين بعض حكام المنطقة (لا بد يتذكر الكثيرون فترة ترؤسه لجهاز الـ كي. جي. بي وتلك نقطة تجمعه بالرئيس بوتين). كما أن بريماكوف من الحذاقة بمكان، فضلاً عن شمائل كثيرة معروفة فيه، ومنها الصبر والقدرة على الابتكار والخوض في اعماق المشاكل وصولاً الى جذور الشكاوى والظهور امام القادة والمسؤولين العرب في مجالسهم على نحو ظهور ذلك الانكليزي «لورنس اوف ارابيا». وقد نسمع مع الوقت ان براعة بريماكوف، الذي استخف يلتسين بقدراته، ستعيده الى الموقع الحساس في صناعة القرار الروسي. ومن يتأمل كيف تعامل بريماكوف مع الرئيس بشار الاسد يتأكد له ان الرجل على طريق العودة القوية الى الكرملين والعودة عبر بوابات العرب الذين ضاق صدرهم بالتلاعب الاميركي وعدم تفهُّم الادارة الاميركية الجديدة لبعض الحقائق وتعاملها بكثير من الخفة مع مسائل مصيرية. ومما قاله «زميلنا» بريماكوف عن الرئيس بشار: «ان الرئيس بشار الاسد ذو شخصية بارزة جداً وسياسي كبير جداً». وقال ايضاً عن المحادثات «انني اجريت معه محادثات مهمة ومفيدة جداً»، ثم اضاف: «لقد اجرينا مناقشة مهمة وممتعة جداً جداً وشعرت اثناء الحديث ان الرئيس يعلم الوضع الحالي بشكل ممتاز ويقرِّر المخاطر الحالية بشكل صحيح، ومن وجهة نظري هو شخصية بارزة جداً وسياسي كبير جداً...».

من المبكر أن نتصور الآفاق التي ستكون عليها العلاقات بين روسيا وبعض الدول العربية والاسلامية مستقبلاً، وهل ان الرئيس بوتين سيلبي مطالب نووية لأغراض سلمية لكل من ايران ومصر والعراق.

كذلك من المبكر الافتراض كيف ستكون عليه العلاقات الاميركية ـ العربية في حال اذا وجدت اميركا نفسها ذات يوم وقد جرَّدها الرئيس بوتين وبنصائح وتحفيزات مدروسة من جانب «زميلنا» بريماكوف من مواقع لها في المنطقة مثل مصر والجزائر ـ واليمن مستقبلاً ـ ومواقع تخطط لوضع اليد عليها مثل ليبيا والسودان والعراق وايران. وهل ستتحمل اميركا ان اربع دول مهمة في منظمة «اوبيك» باتت خارج الهيمنة الاميركية تماماً، او أن مردود آبار هذه الدول بات يصب في الخزينة الروسية التي تريدها اميركا دائماً خاوية؟

إنها تساؤلات في محلها، خصوصاً في حال قرر الرئيس بوتين الذي يحلم بدور الزعيم القوي في بلده وخارجها ان يلعب الورقة الاسلامية حيث ان في روسيا 25 مليون مسلم من شأن تعزيز شأنهم ان يجعل الورقة المشار اليها ذات تأثير كبير... خصوصاً انها لن تكون على حساب العاقلتين: روسيا الدولة والارثوذكسية المذهب.