خليل صابات... وداعا

TT

كنت أتابع نشرة الاخبار على الفضائية المصرية في ساعة مبكرة من صباح امس، حين سمعت نعي الدكتور خليل صابات، المعلم الكبير الذي كان رئيسا لقسم الصحافة في جامعة بغداد، حيث درست اوائل السبعينات. وتلقيت النعي وكأنني اتلقى نبأ وفاة ابي للمرة الثانية.

حين عرفته في بغداد كانت قد سبقته الينا شهرته كاستاذ كبير ومؤسس لقسم الصحافة في جامعة القاهرة ومعلم لأجيال من الاعلاميين والاعلاميات. وقد لفتت انتباهي اناقته المنتقاة، وربطة العنق التي لا تفارقه حتى في أشهر القيظ، وشعره الاشيب الغزير الذي يمشطه الى وراء على طريقة ممثلي السينما الايطالية في الاربعينات. ولما عرفته اكثر فهمت ان الاناقة ليست في المظهر فحسب، بل في الروح والعقل والعبارة.

كنت طالبة في قسم الصحافة نهارا، واعمل بعد الظهر مندوبة في قسم الاخبار المحلية في جريدة «الثورة». وقد طلب اليّ رئيس التحرير آنذاك، طارق عزيز، ان ارشح له استاذا جيدا لكي يلقي دروسا في فنون التحرير الصحافي على صحافيي الجريدة. فقد كانت «الثورة» تأخذ الشباب من منظمات حزب البعث، بدون خبرة سابقة، وتزج بهم في معمعة العمل الصحافي لكي يتعلموا المهنة، كل وشطارته.

رشحت الدكتور خليل صابات الذي اصبح مستشارا للجريدة، يأتي اسبوعيا لالقاء محاضرة على العاملين في اقسام التحرير، ويناقش معهم الاعداد الصادرة خلال ذلك الاسبوع. ولأنه كان ليبراليا يقرأ الصحف الفرنسية وقد تكون في المدرسة الصحافية المصرية، قبل الثورة، فقد كان من الصعب على خليل صابات ان يراعي شروط «الانضباط الحزبي» المقررة على محرري جريدتنا.

افتتح محاضرته ذات يوم بالسؤال البريء التالي: «الجورنال بتاعكم دمه تقيل ليه؟».

سكتنا جميعا ونحن نكتم ضحكات في الصدر ونرسم على وجوهنا معالم الاستنكار. اما هو فراح يشرح لنا ان الصحافة الحزبية ليست رديفة لثقل الدم، وقال: «ان من حق العمال والفلاحين والجنود والطلبة عليكم ان تشرحوا لهم صدورهم وان تنقلوا اليهم اخبار الدنيا والبلد بشكل جذاب يحفزهم على الجهاد والاجتهاد».

ولما اعترض احدهم بأن الاخبار في العادة جدية ولا تشجع على السرور، رد خليل صابات: «الصحافة هي فن تحويل الفسيخ الى شربات». والفسيخ أكلة مصرية هي عبارة عن سمك مجفف، والشربات هي الشربات.

سألنا ذات يوم، ورئيس التحرير حاضر معنا يستمع اليه،: «هل هناك بلد فوق الكرة الأرضية يدعى الولايات المتحدة الأميركية؟» ولما هززنا الرؤوس توجساً قال: «ان من يقرأ جريدتكم يشك في وجود اميركا، حيث لم اجد فيها خبرا اميركي المصدر منذ شهرين».

كنا في ذروة معركة تأميم النفط والعداء لاميركا، ولهذا قلت لاستاذي على انفراد: «على مهلك يا دكتور... ان الرفاق قد لا يستسيغون ملاحظاتك القاسية». رد بكل هدوء: «انهم يدفعون لي مرتبا مقابل ان اعلمهم الصحافة. وهو مرتب يأتي من اشتراكات الحزبيين البسطاء، ولا بد ان اكون امينا معهم. ثم انني انسان حر لأنني لم ارزق اولادا. اعمل اليوم هنا وغدا في بلاد الله الواسعة، دون ان اخشى انقطاع رزق اسرتي وابنائي، ان الأولاد مذلّة يا ابنتي».

لم اكن يومها قد تزوجت وانجبت. لذلك لم ادرك حكمته إلا في ما بعد، وكم رددتها في اوقات الشدة. ولما زرت القاهرة اواخر العام الماضي ذهبت كالعادة للسلام على خليل صابات في شقته التي تقع في الطابق الأخير من عمارة وسط البلد. الشقة ذاتها التي كان يسكنها هنري كورييل الشيوعي الوطني المصري الذي اغتيل في باريس.

فتحت السيدة زوجته الباب وقالت لي ان المرض أتعب زوجها، وفوقه الشيخوخة. اما هو فاعتذر لأنه ما عاد قادرا على النهوض لتحيتي. فاستغفرت الله وتذكرت على الفور: «قم للمعلم وفه التبجيلا...». كان جالسا بكامل اناقته السابقة، وبشعره الناصع المصفف الى وراء وبهيبة الكبار حين تنساهم الأيام. سألني: «عاملة ايه في باريس؟» ولم اجد جوابا خيرا من: «ما زلت اقوم بتحويل الفسيخ الى شربات».

كنت اشعر انه اللقاء الأخير مع الرجل الكبير الذي ولد في الرابع من حزيران ـ يونيو، ومات في الرابع من حزيران ايضا، بعد ان عاش ثمانين حولا وحولا. رحمه الله.