الحوار الهندي الباكستاني.. طريق السلام إلى كشمير !

TT

«من أجل مصلحة شعبينا، لا مفر من مواصلة طريق المصالحة بالدخول في حوار بَنّاء... ومن هنا أدعوك الى ان تقطع هذا الطريق معنا»، بهذه الكلمات المفعمة بالعزم والتصميم خاطب رئيس الوزراء الهندي أتال بيهار فاجبايي الحاكم العسكري في باكستان الجنرال برويز مشرف يستحثه الى عقد مفاوضات «لا بد منها» للخروج من مسلسل الحروب والقطيعة والكراهية والعداء، ولم تزل كشمير، وخط تقسيمها بين الدولتين التوأمتين المنفصلتين عام 1947، عقدة المسلسل في الحروب الهندية ـ الباكستانية. اذن من كشمير، بؤرة النزاع واستمراريته، انبعثت دعوة الحوار بعد ان دفعت صاحبها ـ رئيس الوزراء الهندي ـ دوافع عديدة داخلية وخارجية يأتي في مقدمتها تراجع، ان لم يكن فشل، استراتيجية «القوة الكاملة» الاستراتيجية التي ابدعها الزعيم الهندي نهرو الذي يرى في الانفصال، انفصال كشمير «السكين التي تجري في جسد الهند الحي»، ثم عززها حزب بهاراتياجاناتا ـ الهندوسي ـ القومي ـ الحاكم حتى بلغ تعداد القوات العسكرية الهندية في كشمير نصف مليون جندي، ومنذ ان بدأت جبهة تحرير جامو وكشمير عملياتها الحربية داخل الهند بدأت الاخيرة برفع نفقاتها العسكرية سنويا وباطراد حتى بلغت النفقات اوجها، 28 في المائة، اثر معركة كارغيل صيف 1999.

وراحت النفقات العسكرية المتزايدة تشكل عبئا كبيرا على الاقتصاد الهندي المثقل بالديون، 100 بليون دولار، وراح عجز الميزانية، 11 في المائة من مجمل الانتاج القومي، يبطئ الخطة العشرية (2000 ـ 2010) لمحاربة الفقر، 40 في المائة من فقراء العالم يتضورون جوعا في شبه القارة الهندية. يقول رئيس اركان الجيش الباكستاني السابق الجنرال جهانغير كرامات «بالتأكيد، ان الاقتصاد هو الدافع الرئيسي لحل النزاع الهندي ـ الباكستاني حلا سلميا عبر المفاوضات، واذا ما حل التعاون الاقتصادي محل التنافس العسكري وسباق التسلح فانه يرتفع بمستوى المعيشة للملايين الفقيرة في جنوب آسيا».

ثمة دافع آخر ألحَ على الحكومة الهندية بتعجيل دعوة الحوار وهو فشل مبادرة نيودلهي السلمية لخطب ود المجاهدين الكشميريين من خلال اعلانها وقف اطلاق النار، ومن جانب واحد، ولم تثمر المبادرة السلمية سوى الى تشدد المجاهدين على مشاركة باكستان في مفاوضات حل الازمة الكشميرية.

لاءات الهند الثلاث وعودا على بدء، عادت نيودلهي الى الطريق الذي سلكته من قبل بالتفاوض مع اسلام اباد، بدءا باتفاقية «نهر اودوس» عام 1960، الى اعلان لاهور عام 1999، مرورا باتفاقية سيملا عام 1972 التي تنص على ان كشمير مسألة حدودية ينبغي حلها كسائر الخلافات الاخرى بين البلدين عبر المفاوضات الثنائية. وقد سلبت الاتفاقية اهل كشمير حقهم الذي منحته اياهم الامم المتحدة عام 1948 بخيار الاستفتاء في تقرير مصيرهم. وهذا يفسر غضب وشجب الجماعات والاحزاب الكشميرية لدعوة الحوار الهندية واصفة اياها بـ«الخديعة» على حد تعبير بيان «لشكر طيبة».

ومن هنا تتضح معالم ودوافع اخرى وراء «دعوة الحوار» طالما تشبثت بها نيودلهي في ظل الدستور والسيادة وقرارات عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول الاخرى، كما جاء في «اعلان لاهور» عام 1999، وقد جسد الاخير، باعتباره منطلق «دعوة الحوار» الجديد، لاءات الهند الثلاث: الاولى، لا لدعم باكستان للمجاهدين الكشميريين، وهو شرط تمسكت به نيودلهي في غضون العامين الماضيين اثر معركة كارغيل صيف 1999، كما كان الشرط، وما ترتب عليه من انسحاب من كارغيل، في الجانب الهندي من خط تقسيم كشمير، من سقوط حكومة نواز شريف. والثانية، لا لانفصال واستقلال كشمير وبالتالي تثبيت خط التقسيم باعتباره حدودا دولية بين البلدين. فبينما تسلم وزير الخارجية الباكستاني عبد الستار «دعوة الحوار» صرح نظيره الهندي جاسوانت سينغ قائلا «ان الحكومة في نيودلهي ملتزمة بقرار برلمانها الذي ينص على ان ولاية جامو وكشمير جزء لا يتجزأ من وحدة الاراضي الهندية». وثالثة اللاءات هي لا للمشاركة الدولية، بما فيها الامم المتحدة، في تسوية الازمة الكشميرية. وتستمد الـ«لا» الاخيرة في «دعوة الحوار» الجديدة قوتها من تطورات اقليمية ودولية لا سيما احداث الساحة الباكستانية بدءا بانقلاب اكتوبر (تشرين الاول) 1999 العسكري وما ترتب عليه من اضطرابات وتوترات سياسية واقتصادية تجسدت في خطر النشاطات الحزبية باعتبارها «مصدر فساد واضطراب البلاد» على حد قول الجنرال مشرف، وذلك اشارة الى الحزبين الرئيسيين في باكستان ـ الرابطة الاسلامية والشعب ـ ورئيسيهما نواز شريف وبي نظير بوتو، وكلاهما في المنفى. ومن جهة اخرى توترت العلاقات بين حكومة الجنرال والجماعات الاسلامية وتحديدا الاصولية جراء تشدد الاخيرة في مطالبتها بتطبيق الشريعة. وامست حكومة اسلام اباد في موقف لا تحسد عليه في ظل الضغوط الدولية خاصة الاميركية. وسارعت نيودلهي، وهي ترقب جارتها المضطربة عن قرب، الى «ضرب الحديد ما دام حاميا» فأرسلت برقية دعوتها للحوار واضعة نصب عينيها امرين، اثنين: الأول، توصية حليفتها الجديدة ـ واشنطن ـ بالحوار الهندي ـ الباكستاني لكي تضرب عصفورين بحجر: الأول، ان تخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية وطموحها الى العضوية الدائمة في مجلس الامن والثاني، وهو الأهم، ان تضع خطوة متقدمة على طريق مقاومة الارهاب الدولي والتطرف الاصولي في منطقة وصفها الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون بأنها «اخطر منطقة في العالم» اثر التفجيرات النووية في الهند وباكستان عام 1998 ـ واذا ما ذكرنا تأييد الهند، من بين دول قلائل، للنظام الصاروخي الاميركي ودروعه الدفاعية في آسيا تزداد قائمة دوافع «دعوة الحوار» بقدر ما يزداد تأييدها ودعمها من قبل الولايات المتحدة من خلال ضغوطها على باكستان.

الجيش الباكستاني والمنظمات الأصولية وامام زخم دوافع الهند واهدافها من وراء «دعوة الحوار»، ما هو موقف باكستان واهدافها من قبولها بترحيب للدعوة؟. سبق الجنرال مشرف الدعوة بتسجيل موقف بلاده خلال محادثته الهاتفية مع نظيره الهندي فاجبايي قائلا «اظهر فنك في الادارة وتقدم نحو حل وسط للنزاع في كشمير، واؤكد انني والباكستانيين جميعا سنتقدم لملاقاتك عند منتصف الطريق». يصرح الخطاب بالحلول الوسط، واول مدلولات الحل الوسط تقول بخط التقسيم. وهذه ليست المرة الاولى تتخلى اسلام اباد عن كشمير اذ سبق ان وجهت القوات الباكستانية نيران اسلحتها ضد مسيرة «التحرير والتضامن» التي نظمتها «جبهة تحرير جامو وكشمير» في فبراير (شباط) 1992. وفي هذا التاريخ وللمرة الاولى بدأ الجيش الباكستاني الابتعاد عن المنظمات الاصولية في باكستان وافغانستان وكشمير، على حد تعبير رئيس اركان الجيش الباكستاني السابق عاصف نواز. وسبقه المسؤولون السياسيون والاقتصاديون في اسلام اباد في خلافهم و«الجماعة الاسلامية» بصدد اسلمة المؤسسات المالية والانتاجية، بما فيها الاستثمارات الاجنبية، وشجب مقررات محكمة الشريعة الاسلامية بصددها ـ هذه المؤسسات ـ اذ اعتبرها وزير الاقتصاد بمثابة قيود وحواجز ستعزل الاقتصاد الباكستاني وتعطل حركته في بناء السوق الحرة الهادفة الى التكامل مع الاقتصاد العالمي.

وفي مقابل سياسة الحلول الوسط تواجه الحكومة في اسلام اباد ضغوطا داخلية متزايدة من قبل الشعب الباكستاني لنصرة كشمير وانقاذ اهلها من اضطهاد الهندوس المتشددين. وفضلا عن الرابطة الاسلامية هناك اواصر عرقية وقبلية وعائلية تربط الباكستانيين بالكشميريين. فالحكومة في اسلام اباد تدفع الآن ثمن الضغوط الداخلية من جهة والضغوط الدولية الخارجية من جهة اخرى بسبب الجرح الكشميري.

ولعل المخرج من مأزق هذه الضغوط المتزايدة يكمن في التنمية الاقتصادية التي يوفر السلام في كشمير اسباب نجاحها في الهند وباكستان على حد سواء.

* كاتب عراقي مقيم في بريطانيا