هدنة أم تأجيل لأزمة الحكم في لبنان؟

TT

تزدحم الاحداث، احيانا، في بلد ما، او في جواره، بحيث انه يصعب على المراقب تحديد الاهم بينها في نظر الناس او في نظر الحكام والسياسيين الى المصلحة الوطنية، او بالنسبة لعلاقات هذا البلد بجواره المجتمع الدولي. وهذا ما تعرض له لبنان في الايام الاخيرة، اي بعد الجلسات الصاخبة والحافلة بالمبارزات السياسية التي شهدها المجلس النيابي، خلال مناقشته لمشروع الموازنة. وبعد الاحتفالات بالذكرى السنوية الاولى لانسحاب اسرائيل من الجنوب. وبعد ان ارتفعت المجابهة بين الشعب الفلسطيني المنتفض وقوات الاحتلال الاسرائيلية حدا خطيرا استدعى تدخل الرئيس الاميركي شخصيا لدى الرئيس الفلسطيني عرفات ورئيس الحكومة الاسرائيلية، للحؤول دون اندلاع حرب مفتوحة على الاراضي الفلسطينية.

ان كلا من هذه الاحداث ألقى في قلوب اللبنانيين الكثير من الحذر والقلق بل والخوف على المصير، القريب والبعيد، وكيف لا يقلق الانسان اللبناني عندما يسمع بأذنيه ويلمس بيديه الخلافات السياسية القائمة بين اركان الحكم؟ كيف لا تتبدد آماله في نجاح الخطة الاقتصادية الحكومية الرامية الى استجلاب الرساميل والاستثمارات الى البلد، عندما يسمع من اركان الدولة ومعظم الاحزاب الحاكمة، المختلفة بعيد تحرير الجنوب، ان «المقاومة مستمرة» مهما كان الثمن؟ وهو يعرف ان الامم المتحدة والولايات المتحدة الاميركية والدول الاوروبية تعارض هذا الموقف؟ كيف لا يخشى الانسان اللبناني على مصيره، وهو يرى سراب السلام في الشرق الاوسط يتبدد، وتطل، بدلا عنه، في الافق، رعود وبروق حرب عربية ـ اسرائيلية قادمة؟

مهما كانت الخلافات بين الرؤساء اللبنانيين الثلاثة عميقة او حادة، فلم يكن من «المناسب»، وفقا لاصول اللعبة السياسية والديموقراطية، تحويل جلسة مناقشة الموازنة، الى «محاكمة» للاجهزة الامنية، والى هجوم غير مباشر على رئاسة الجمهورية، لا سيما اثناء غيابه عن لبنان، في زيارة رسمية الى فرنسا. صحيح ان الحريات العامة وحكم القانون وتطبيق الدستور، تستحق معركة، بل ان الدفاع عنها، في لبنان والدول العربية، لا ينتهي، ولكن هل رئيس الدولة، وحده، مسؤول عما شكا منه بعض النواب «المعارضون ـ الموالون»؟ هل هو الذي منع الحكومة من التطهير والاصلاح الاداري؟ اولم يكن بالامكان تدارك اسباب الشكوى بالحوار وداخل جدران قصور الحكم، بدلا من نشره بواسطة التلفزيون على اللبنانيين والعالم، كما ينشر «الغسيل غير النظيف»؟ اولم يتساءل الذين شنوا هذا الهجوم على الحكومة او الحكم، عن تأثير نشر هذا الغسيل على سمعة لبنان في الخارج، وعلى توظيف الرساميل فيه؟

كذلك الامر، بالنسبة للمقاومة اللبنانية، فمن المسلم به عند جميع اللبنانيين، ان لبنان لن يعرف السلام ولن يهادن اسرائيل الا اذا تحررت مزارع شبعا والجولان وافرج عن الاسرى وحلت قضية اللاجئين الفلسطينيين، وحل السلام بين العرب واسرائيل، ولكن هذه الشروط لن تتحقق، باعتراف اكثر المتفائلين تفاؤلا، قبل سنوات خمس او عشر، او عشرين على الارجح. هذا اذا تحققت، يوما ما. وما يريد اللبنانيون معرفته، بل ما من حقهم ان يعرفوه هو: كيف يعيشون من الآن الى موعد تحقق السلام. هل عليهم ان يبقوا مجندين، ومتوتري العلاقات مع اسرائيل وفي حالة حرب واستنفار ضدها، كما يريد حزب الله والاحزاب العقائدية اللبنانية والعربية الاخرى؟! ام في حالة حرب ومقاومة وتضامن كلي مع سورية، في المسار والمصير، كما اعلن رئيس الجمهورية واركان الحكم او الحكومة؟ ام ان من حقهم، اسوة بشعوب عربية اخرى، ونظرا لما اصابهم في الحرب، وما هم عليه من حالة اقتصادية ومالية صعبة ـ ومن دون الخروج عن التضامن العربي ووحدة المسار مع سورية ـ ان يتبعوا طريقا يساعدهم على الانتعاش الاقتصادي والمالي؟

ان زيارة نائب الرئيس السوري، عبد الحليم خدام، للبنان، ورغم العارض الصحي الذي حال دون القائه لكلمته في حفل ذكرى استشهاد رئيس الحكومة اللبناني الراحل، رشيد كرامي (نشر نصها في صحف الاثنين)، كانت ضرورية لتذكير المسؤولين والسياسيين والاحزاب في لبنان، قبل تذكير اللبنانيين، «بالاعتدال والحوار والتسامح» و«بعدم العودة الى الحرب التي تميزت بالعصبية والجهل واستعرت بالحقد»، و«بالحرص على الوحدة الوطنية التي هي حصن لبنان وطريق نهوضه»، والى «سلوك طريق الايمان بالله وحب الوطن، الى مساندة الدولة بمؤسساتها الدستورية». الا ان البعض يتساءل عن «الجهة» او «الجهات» السياسية والحزبية التي تحتاج الى هذه النصائح والتوجيهات السورية؟ هل هي المعارضة للحكم او للحكومة فقط؟ ام هي، ايضا، تلك التي في الحكم او في مراكز السلطة والقرار، والمحسوبة صديقة لسورية؟ ان من استمع الى ما قيل في مجلس النواب اللبناني، في الاسبوع الماضي، لم يعد واثقا من تحميل مسؤولية التوترات السياسية اللبنانية الاخيرة، الى الحاكمين او المعارضين؟ هذا اذا كان بامكانه، بعد كل ما قيل، معرفة من هم الحاكمون ومن هم المعارضون في لبنان؟

لقد انتهى اسبوع التوتر والقلق اللبناني، على غير ما ابتدأ، اذ القى قبول السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية، مبدئيا، بوقف اعمال العنف، ماء باردا على ألسنة اللهيب التي كانت مرشحة للارتفاع، بعد عملية تل ابيب. وبالرغم من الاخبار المتسربة عن غضب رئيس الجمهورية مما قيل في المجلس النيابي، وحرصه على «التأكيد على صلاحياته الدستورية» التي تجاوزها البعض خلال مناقشات الموازنة، فان اركان الحكم في لبنان، لن يعلنوا الحرب على بعضهم البعض، ولاكثر من سبب، لعل من اهمها حرص دمشق على تجنيب لبنان ونفسها اخطار ازمة سياسية حادة في لبنان، وفي هذه الظروف الاقليمية، بالذات. غير ان هاتين الهدنتين، على ارض فلسطين، وفي الساحة السياسية اللبنانية، لن تكونا اكثر من «وقف تبادل اطلاق النار» بين الفرقاء المتنازعين. اذ انه من سابع المستحيلات الوصول الى اتفاق بين السلطة الفلسطينية وحكومة اسرائيلية برئاسة شارون حتى لو جلسا الى طاولة المفاوضات، مائة عام. كذلك من الصعب جدا على لبنان التوفيق بين مقتضيات الانبعاث الاقتصادي (هونج كونج)، ومتطلبات المقاومة والتحرير والجهاد من اجل استعادة الحق العربي في فلسطين (هانوي). كما انه من الصعب جدا اقناع نواب ووزراء هذه الاحزاب، بالخروج من الحكم او باقتسامه، او بالاتفاق على طريق ثالث يخفف من وصاية سورية على السياسة في لبنان.

لا خلاف، مبدئيا، على العناوين الكبرى والمبادئ الاساسية وما يسمى بالثوابت او بالخطوط الحمر، لا بين دمشق وبيروت، ولا بين المعارضين والموالين في لبنان. وما جاء في خطاب نائب الرئيس السوري من نصائح للبنانيين، كلام من ذهب، لا يستطيع اي لبناني انكاره او رفضه. ولكن العبرة ـ كما يقال دائما ـ هي في التنفيذ، هي في الاشخاص. هي في تضارب المصالح الحزبية والشخصية، هي في نشوة السلطة ومرارة البقاء خارجها. هي في تمسك اللبنانيين الشديد بالحرية وفي هشاشة ممارستهم للديموقراطية، وهي، ايضا، في الطائفية السياسية المفروضة على الشعب اللبناني، وفي طبيعة الاقتصاد اللبناني الذي يعتمد على الخدمات والريع والاستثمارات الخارجية، لا على الانتاج الوطني.

ومن هنا، كان، وسيبقى لبنان «عائشا في خطر دائم»، كما قال احدهم، ويبقى اللبنانيون يتطلعون الى الخارج، بدلا من ان يتطلعوا في اعين وقلوب بعضهم البعض.