جدلية المستضعفين والمستكبرين

TT

في السبعينات من القرن الفائت كانت حمى الانقلابات العسكرية الثورية ناشطة في العالم العربي. وفي عام 1971 وقعت محاولة انقلاب عسكرية فاشلة في بلد عربي، حيث احتجز في ضربة واحدة مئات الشخصيات التي تمثل (دماغ البلد) وكانت فرصة ممتازة لضابط مليء بالعقد النفسية ان يمارس طغيانه ويتمتع بالضحايا، فعندما اقترب منه صديق له وكان بين الأسرى، عانقه ثم أفرغ الرصاص في بطنه فأرداه قتيلا. وعندما لاحت منه نظرة ليكتشف غريمه رئيس الدرك اخرجه من صف الرهائن ليقول له اهلا بك ان الدنيا صغيرة ثم يأمر باطلاق الرصاص عليه وعندما يخبره منفذ الجريمة ان ما زال به رمق يضرب صدغه بقدمه ويقول هنا مكان القتل، واذ تدوي الطلقة مفجرة الجمجمة يرتعش الضحية ثم يهمد نهائيا.

وفي كتاب (تذكرة ذهاب واياب الى الجحيم) لمؤلفه (محمد الرايس) وكان يومها ضابطا تحت امرة جبار الانقلاب فيؤمر بقتل رجل بري، يقول (الرايس): «ثم استدار نحوي ومسدسه مصوب الى صدري ثم اصدر اليّ الامر التالي: الرايس اقتل هذا الخائن. ترددت وحسبت انني احلم وانها مجرد تهيؤات لا أقل ولا اكثر، لكن (أعبابو) كرر الامر بلهجة تهديد وقد صوب الماسورة نحوي والتمعت في عينيه شرارة حقد ورعب. وكان ينتظر رفضي ليرديني قتيلا من دون شفقة أو رحمة. نظرت إليه نظرة المتسول الذي ينتظر صدقة وكانت صدقتي التي انتظرها من هذا الانسان البشع والمنعدم الضمير هي تراجعه عن قراره القاسي. والحال انه أصر بالحاح وهددني بالقول: حذار لا تدفعني لكي اقتلك ايضا. هذا الانذار هز كياني فطفا الى السطح جبني الذي طالما اخفته انفتي الزائفة واستولى عليّ جبن رهيب وقاهر وتاهت نفسي في سراديب الخوف من الموت في عز شبابي. اهتز جسدي كله وانا افكر بأنني سأقتل انسانا لا شك انه بريء واعزل على الخصوص. لم يكن امامي اختيار فإذا ما رفضت تنفيذ هذا الامر الوضيع سيقتلني أعبابو لا محالة ويقتل القبطان ايضا. واذا قتلته ستظل الجريمة عالقة بي الى الأبد، حتى لو كانت فعلتي غير ارادية واجبارية تحت تهديد أعبابو فستظل جريمة وعملا غير عادل ولا انسانيا في حق شخص اتهمه المتآمر الرهيب بأنه خائن. كنت افكر في ما سأقدم عليه، اختلطت افكاري وتشوشت ذاكرتي مع تسارع الاحداث ورعب الفعلة، لم استطع ان اقاوم طويلا احساسي الانساني الذي منعني من القيام بما امرت به وانتصر الجانب المدنس فيَّ ودفعني الى الضغط على الزناد، حتى ان دويّ الطلقة فاجأني. خر القبطان صريعا وسقط معه ليس فقط كل ماضيَّ الذي كان مصدر عزتي وافتخاري تاركا وراءه احساسا بالعار، بل سقط معه ايضا مستقبلي. اصبحت انسانا محطما لأن (أمحمد أعبابو) نزع مني في رمشة عين أعز ما لدي: شرفي».

ان القرآن الكريم يذكرنا بواقعة مشابهة عندما يهم فرعون بقتل موسى «وقال فرعون ذروني اقتل موسى وليدع ربه» ولكن القرآن يخلد الواقعة التاريخية في سورة كاملة تحمل اسم صاحبها (سورة المؤمن) لرجل واحد يوازي بموقفه حقبة تاريخية بأكملها بين جموع فاسدة باعت ضميرها للشيطان عندما يقف فيعلن رأيه: «أتقتلون رجلا أن يقول ربيَّ الله» ولكن السؤال من أين تأتي القوة النفسية لهذا فيعترض على حكم الاعدام مع انه لم يدع لفعله فلا يسكت على الظلم، في الوقت الذي ينفذ (محمد الرايس) ما أمره به (أعبابو) فيقتل رجلا بريئا لأنه امر بذلك. ان هذا يحتاج الى تفكيك سيكولوجي اجتماعي.

ينقسم الناس عند الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) الى قادة واتباع، خاصة في الظروف الخطيرة التي تتطلب الحسم في اتخاذ القرارات. وهناك طراز ثالث من: (الذين ينسحبون ويجدون في انفسهم الشجاعة الكافية لرفض الاذعان)، ولكن الانسحاب بذاته يمكن السادة المسيطرين ان ينظروا الى المادة الانسانية: (نفس النظرة التي تعلموها بالنسبة لآلاتهم ويرون فيها شيئا لا احساس فيه) ولكن نظرة من هذا النوع كفيلة بانتاج عصر مرعب: (تغلب عليه صفة من اللاانسانية المجردة تفوق كل ما عرفه العالم في عصوره السابقة).

ان القيادة تختلط بالعبقرية والابداع كما جاء ذلك في الدراسة التفصيلية التي تقدم بها (دين كيث سيمنتون) ولكن العبقرية لا تعني القيادة والعكس صحيح فلا يشترط في القائد التميز والابداع. وأسوأ الانواع هم العسكريون عندما يتحولون من مواقعهم التنفيذية الى مراكز التفكير كما لو ادخلنا خلية عضلية أو عظمية لتحتل موقع خلية عصبية.

ان الدماغ محاط بأربعة انواع من الحماية بين قحف عظمي وعضلات حافظة واغشية مغلفة ثم الماء الذي تسبح فيه المادة العصبية. اما الدماغ بحد ذاته فهو في غاية الهشاشة، ولكن ان تزحف خلية عظمية الى داخل الدماغ هو وضع سرطاني. وفي المجتمع يحدث نفس الشيء عندما يقتحم العسكر مراكز التفكير ليفرضوا التوجيه. اذا كان العباقرة يتميزون فليسوا بالضرورة قادة وكان (هنري كفنديش H. Cavendish) مثلا (الذي اكتشف الهيدروجين وقام بحساب كتلة الارض لم يكن يخاطب النساء ولم تزد كلماته لأي رجل عن بضع كلمات وكان له مدخله الخاص الى المنزل وقد بنى هذا المدخل بحيث كان يمكنه الذهاب والاياب دون الالتقاء بأحد) في الوقت الذي كان هتلر خطيبا مفوها يسحر الالباب ويتلاعب بمشاعر الجماهير. جاء في مذكرات (رودولف هيس): «حضرت يوما اجتماعا شعبيا كان يتحدث فيه هتلر وكانت تلك المرة الأولى التي كنت ابكي وهتلر يتكلم. كان حديث هتلر اشبه بالميلوديات الخالدة يربط بين ما هو قديم وجديد والناس تعتصرهم الاحاسيس الجياشة مرة تصعد بنا كلماته الى السماء وتارة تهبط بنا الى الجحيم وغالبا كلاهما معا وكانت المتعة في الألم والخوف والبهجة ممزوجة بأعجوبة. هكذا كان يتكلم الزعيم»، كذلك وحسب احصائيات مجلة «در شبيجل» فإن القادة العسكريين كانوا اقرب الى الحمق منهم الى الذكاء، وفي الدراسة التي اجرتها (كاثرين كوكس) عن القادة الـ 109 كان اقلهم ذكاء الـ 27 من القادة العسكريين.

وفي القرآن الكريم تم تشريح مشكلة (الاتباع) في العديد من المواضع، حيث يتبرأ كل طرف من الآخر «إذ تبرأ الذين اتَبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب. وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم». وفي سورة سبأ نرى مسرحية كاملة (للظالمين) ونفاجأ ان شريحة الظالمين مكونة من لونين من الناس، كل فريق يلقي اللوم على الآخر: المستضعفين والمستكبرين «ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم الى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين».

كلمة (ظالم) توحي بأنه عمل يوقعه شخص بآخر وهو فعلا كذلك بالمعنى الفلسفي عندما يوقع الانسان الظلم بنفسه، فهذا الانشطار بين الانسان ونفسه هو جذر المشكلة. وعندما يتشكل وسط الاستضعاف فإنه يقود مثل الانشطار النووي الى سلسلة مضاعفات.

فالاستضعاف يولد الاستكبار، وكلما استسلم الاتباع اكثر زادت شراسة الزعماء وشعورهم بأنهم فوق الخطأ ومعصومون. ان (الاستكبار) حالة ورمية غير صحية لأنها نفخ وحقن (ذات ضعيفة) بصفات كبيرة، كما ان العكس صحيح. فمع تفريغ القوة من الشخص المتورم يحيله الى كائن ضامر. وهذا التردد أو الانقلاب بين الضعف والتجبر هو مؤشر فقدان التوازن وغياب الصحة النفسية. ونحن نعرف هذه الظاهرة المرضية في العديد من المستويات. ففي مستوى الفيزياء نعلم ان تدفق التيار الكهربي هو شحنة سلبية، ولكنها تردد بين قطبين موجب وسالب، كما ان الصورة الفوتوغرافية تبدأ من صورة سلبية سوداء داكنة قبل (تحميضها) واخراج صورة ملونة منها.

وكذلك في مرض (الاستكبار) فقد توحي مظاهر القوة بالجمال، كما نادى فرعون في قومه أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. كان موسى في نظر فرعون شخصا تافها عييا في النطق اما هو فهو الذي يملك المقدرات والمصائر ويحسن النطق فيقول ما علمت لكم من إله غيري وما أريكم الا ما أرى وما اهديكم إلا سبيل الرشاد.

وفي علم النفس نواجه في عالم (الجنس) مرض السادي والمازوخي وفي شمال ألمانيا توجد مؤسسة عملاقة في مدينة (فلنسبورغ) تحصل المليارات من الماركات سنويا من نشر بضاعة الجنس على كل المقاييس والأذواق ومنها توريد ادوات التعذيب من سلاسل واحزمة وسياط، ذلك ان السادي لا يصل الى الذروة إلا ببمارسة التعذيب. ويذكر (كولن ولسن) في كتابه (اصول الدافع الجنسي) عن مرض (النيكروفيليا) و(الفتيشية) الشيء العجيب من ممارسة اللذة مع الجثث أو الاثارة برؤية الملابس الداخلية.

والسادي تعريفا هو الذي يتهيج جنسيا عندما يلحق الأذى بالآخر، كما ان المازوخي لا يتمتع جنسيا ما لم يجلد ويتألم ونحن نعرف ان هذا الخلل النفسي هو وجهان لعملة واحدة فالسادي هو مازوخي وبالعكس. وتصلح هذه القاعدة لعلم السياسة فالجبارون ضعاف لأن المحتوى النفسي الداخلي كاذب غير حقيقي، كما ان سطوتهم لا تزيد عن أوهام، والديكتاتورية شجرة هشة لأنها نبتت في جو اللاشرعية والجريمة، والكلمة الخبيثة شجرة خبيثة تسقط في النهاية تحت ثقلها الخاص فيكون انجعافها مرة واحد. ان الاستضعاف والاستكبار عملة مزدوجة وطاقة تبادلية، مثل توتر الكهرباء بين السالب والموجب، أو مخطط القلب الكهربي من ذروة فوق خط السواء وموجة اسفل منه. وهذه الحركة النواسية المزدوجة التبادلية هي سر المرض برمته. وهو معمم داخل النفس الواحدة وانتهاء ببناء عالم ثنائي الاقطاب مشوه الصورة مريض الاداء.

ان منظر الشرطي والسائق في العالم الثالث يفضح هذا المرض. لنتأمله وهو يوقف سائقا مضطربا جاف الريق ممتقع القسمات وهو يقدم أوراقه، وبين الشرطي وهو يتقدم شامخ الرأس واثق الخطى مباعدا بين رجليه يطالب المجرم بتقديم أوراقه. ومن الغريب ان المنظر قابل للتكرار بقلب الأدوار وبفارق تغيير الملابس أي القشرة الخارجية لا اكثر. فعندما نحشر الشرطي في مقعد السائق ونلبس السائق قبعة الشرطي فإن المنظر يتكرر بحذافيره في شاهد واضح ان (الوحدة الإمراضية) واحدة بسبب خلل رافعة القوة، فالمستكبر في اعماق نفسه هو مستضعف والعكس بالعكس. وباتجاه ثان عندما يتقدم الشرطي الى الضابط الاعلى منه فإنه يصبح مستضعفا وهو كان قبل لحظات مستكبرا امام السائق، كما ان الضابط امام الجنرال يصبح حقيرا. اما الجنرال امام الحاكم الاعلى فهو بين يدي الإله لا يتكلمون إلا من اذن له وقال صوابا.

هذا المرض يتخلل كل المستويات بين الشرطي والسائق والرجل وزوجته والموظف والمراجع وبين ضابطين بفارق نجمة واحدة ما لم يكن هناك خلل من نوع ثان، فقد يكون هناك ضابط بنجمة واحدة ولكنه يحل المشاكل بأفضل من جنرال كبير، أو ممرضة في الجناح اهم من رئيس قسم الجراحة بكل ثقله العلمي بسبب انهم مدعومون بشبكة جديدة تمسك بالبلد من عائلة أو طائفة أو قبيلة أو حزب فهنا تتبدل الحسابات من جديد وتدخل مفردات جديدة في المعادلة. وينتقل هذا المرض الى مستوى نوعي جديد بين الحاكم والامة أو بين دولتين. فتمسح الامة (المستضعفة) لصالح الحاكم الفرد (المستكبر) أو بين دولة مستكبرة مثل امريكا ودولة ضعيفة من العالم الثالث.

المرض كما نرى انساني عميق الجذور خبيث الطبيعة، مثل السرطان الذي يتظاهر بالتمرد الخلوي في الوظيفة والمكان. فعندما تترك خلايا الثدي مكانها لتنشط في الدماغ، أو تضرب خلايا الكولون بإعصارها في الكبد كذلك يحدث الخلل الوظيفي الاجتماعي والعالمي فمن كانت وظيفته الحراسة ينقلب الى قائد، ومن كانت مهمته الامن ينقلب الى جهاز رعب، ومن كان في القاع يصبح له جناحان فيطير الى السقف. ان الانسان عندما يمشي على رأسه يفقد رأسه ورجليه معا. ومن نتائج هذا الخلل النفسي ان الانشطار الداخلي هو تفكك الشخصية لتتحول الى شخصيتين (جايكل وهايد) في فصام نكد ومرض بدون علاج لأن صاحبه آخر من يدرك انه مريض، كما في علة القصر فهي علة وراثية غير قابلة للعلاج ولو بلبس بنطلون طويل.

وهنا تبرز الى السطح ثلاث ظواهر على مستوى الفرد (الانسان العصا) أو (انسان الفكرة) أو (انسان المبادرة). الانسان العصا أو البوق أو المسدس هو من يؤمر فيطيع بدون تردد وهو يقول حاضر سيدي حتى لو امر بهدم الكعبة كما فعل الحجاج.

وفي جيوش العالم العربي يستفتح الجندي اول ايامه بحفظ القاعدة الذهبية (نفذ ثم اعترض). وهكذا وتحت هذا الاغتيال المنظم للعقل والارادة امكن تحويل الجنود الى (روبوتات) والجيوش الى (مطارق لحمية) خرساء عمياء تقوم بالتهام الجيران واستباحة الامة وهدم المدن بالصواريخ ورش الغازات السامة على المواطنين ليتساقطوا كالذباب ودفن الناس في قبور تحت الارض عشرات السنوات كفاتا احياء وامواتا في سجون خاصة، كما فاحت من رواية (بطاقة ذهاب واياب الى الجحيم). واذا كانت بعض الدول العربية لم تصل الى هذه الدرجة من الشراسة فليس بسبب الحصانة، بل لغياب ظروف ابرازها الى السطح. وكل ذلك بسبب انتاج نموذج الانسان المريض (المستضعف المستكبر).

أما (انسان الفكرة) فهو الذي تحررت ارادته فيطيع في الطاعة ويعصي في المعصية ولا ينفذ إلا ما يقتنع به ويناقش الأوامر وصلاحيتها، ولكن (انسان المبادرة) هو من نوع مختلف وعندما تأتي الأوامر بهدم الكعبة يقول لن اقف مكتوف الايدي ولا يمكن ان أبقى على قيد الحياة وانا أرى ذلك.

وفي كتاب (زيارة الجحيم) يسأل الجنرال (أوفقير) ضابط الانقلاب: (كان عليكم ان تشغلوا دماغكم فأنتم ضباط ولستم حميرا)، فكان جوابه: (لقد نحتوا في أذهاننا الطاعة العمياء والخضوع المطلق وفي كل لحظة دونما سؤال أو رفض).

من أجل تعرية هذه الآليات النفسية قمت بتجربة على طبيب كان صديقه في زيارته وسألته: لو أُعطيت مسدسا ووُضِع على صدغك مسدس ثم طُلب منك تحت التهديد بقتلك قتل هذا الذي انت في ضيافته ما كنت فاعلا. فوجئ صاحبي بالسؤال فتردد بعض الشيء ثم اعترف بأنه سيقتل. إلا أنه اكتشف نفسه قد تحول الى مجرم. عندما تدفق من فمه سيلٌ من المبررات ليس آخرها ان الله سيغفر له لأنه (مُكّرَه). هنا ادركت ان هذا الصنف من الناس ليس بالقليل ولا النادر وان نماذج (محمد الرايس) و(أعبابو) موجودة بكثرة بأسماء مختلفة وان عصر الظلمات السياسي في العالم العربي تحصيل حاصل.

[email protected] *