يختارون

TT

يهوى الصحافيون لعبة التوقع، لأن الناس تداعب كبرياءهم المهنية عندما تسألهم عما ستؤول إليه الأحداث أو المعارك الانتخابية. وقد حضرت منذ 1961 انتخابات رئاسية ونيابية كثيرة في فرنسا، وكنت دائماً أتوقع المتوقع. وكان الأمر عادة شبه مضمون. كنت أتوقع بداهة أن يفوز شارل ديغول على فرنسوا ميتيران لأن أحداً لم يكن يجرؤ على التفكير بأن رجلا بلا تاريخ سوف يهزم حامل تاريخ فرنسا. ثم رمى الفرنسيون ديغول من نافذة الإليزيه وأرسلوه إلى قريته نائيا منفيا. وقبله هزم البريطانيون ونستون تشرشل بعدما أنقذ بريطانيا من الهزيمة والامحاء. لكن حل يوم سئمت فيه الناس الامبراطورية وطوت صفحاتها وراحت ترقص على أنغام البيتلز و«كل ما تحتاجه هو الحب». وليس المجد. وفي حي مونمارتر كانت الناس تردد وراء المغنين الشعبيين: «إنني... على المجد».

تنتقل الأمم والشعوب من مزاج إلى مزاج. وبعد ظهر أمس كنت أهيم بين «حجارة» باريس، أي شوارعها ومبانيها القديمة، عندما مررت صدفة أمام منزل المسيو فاليري جيسكار ديستان. وقد تقدمت السن بكلينا. وبفرنسا. وعندما توقعت في المرة الأولى أن هذا الرجل سيكون رئيس فرنسا المقبل، ضحكت الناس من اسم لا تعرفه. وكنت طبعا أتوقع ما قرأته وسمعته في بعض باريس. وقد شاب وكبر مرشح التروتسكيين «آلان غريفين» الذي أكد لي آنذاك ان تحالفه مع «الفوضويين» سيحمله إلى الإليزيه بعد أيام. وقد صدقت. ففرنسا امة متقلبة سريعة التبرم، شديدة الملل، وترفض أن تصدق أن لها أجمل جغرافية في أوروبا: زرقة المتوسط وضجر الأطلسي الكئيب، وتنوع المناخات وغنى المواسم، وثروات الأنهر والسهول وينابيع الجبال وزمرد البحيرات ووسع الجنائن. إنك لا ترى الفرنسي إلا متأففا متذمراً ينق ولا يشكر على ما أعطي من أنعام.

طبعا منذ زمن كنت أتوقع أن تخوض امرأة معركة الرئاسة. إذا لم يكن ذلك في فرنسا فأين إذن. ولكن هل يحب الفرنسي المرأة رئيسة، أم يفضل أن يرى الرئيس يزورها بعد منتصف الليل من دون حراسة، تاركا مفتاح القوة النووية في درج غرفة النوم الأخرى؟ أول سؤال يطرحه الفرنسي في داخله: لمن أسلم المفتاح النووي؟ هل سوف أعطيه لامرأة جذابة لا خبرة لها؟ هل أمنحه لابن مهاجر؟ ولمن سأقدم هذا القصر الذي شهد المسرح السياسي العالمي في أهم درامياته: حروبا ومجاعات وامبراطورية وغيابا وانتصارات وهزائم؟ هل أجير كل ذلك لابن مهاجر؟ هل أقترع للمسيو لوبن الذي يريد طرد جميع المهاجرين من أجل صفاء «العرق» الفرنسي؟ أي عرق؟أي صفاء؟ ألم يكن الكورسيكي نابليون بونابرت صاحب الامبراطورية وصاحب «قوس النصر»؟

دعونا من لعبة التوقع. إليكم فقط هذا البيان: خلال عملي الصحافي انتقلت من ديغول إلى بومبيدو إلى جيسكار إلى ميتيران إلى جاك شيراك. وعندما مررت أمام منزل جيسكار تنبهت إلى أن رئيس فرنسا في الماضي كان يجر خلفه قصرا وتاريخا. والآن قد يحمل بطاقة هجرة. تلك هي فرنسا.