لا تبك وحدك

TT

لو لم أكن فوزية لارتبت في صدق الكلمات التي أتأهب لكتابتها الان. ولكن لأن التجربة حقيقية والدموع التي ذرفت حقيقية، أدهش حقا كلما تذكرت الحدث وظروف الزمان والمكان. باختصار وعلى مدى ثلاثين عاما أجد دمعي يفيض كلما شاهدت مشهدا معينا من أحد الافلام، التي تعتبر علامة في السينما المصرية. فقد شاهدت الفيلم مرارا، أي أن المشهد لم يعد جديدا عليّ، بمعنى ان الاداء، والمعنى لا يفاجئني، ومع ذلك يأبي الدمع إلا أن يفيض ويفيض ويفيض. والجدير بالذكر هو ان المشاهدة الاولى جمعتني وأمي، رحمها الله. بكت هي وبكيت أنا واندفعت إحدانا لاحتضان الأخرى ومواساتها.

لماذا إذن يفيض الدمع في مواقف معينة؟ سائلا صافيا يتجمع في العين، ثم يسيل على الخدود؟ والأعجب هو أن خروج الدموع من المآقي يعقبه شعور بالراحة. وقد كانت هذه الظاهرة بالتحديد موضوع دراسة أكاديمية أجراها البروفسور الامريكي وليام فراي في نهاية سبعينات القرن العشرين.

في مراحل الدراسة دعا فراي مجموعة من المتطوعين لمشاهدة أفلام عاطفية، في احدى دور السينما، وألبس كلا منهم نظارة مزودة بقنينة لاستقبال الدموع.

وفي مرحلة اخرى من البحث بدلا من مشاهدة الافلام العاطفية طلب من المتطوعين أن يستنشق كل منهم رائحة البصل المقطع الى أن يفيض الدمع من جراء رائحة البصل، وإن فاض يجمع في أنابيب خاصة معدة للغرض.

ثم جاءت المفاجأة العجيبة في معمل الابحاث. فقد تبين أن الدموع التي تفيض نتيجة للانفعال العاطفي تختلف نوعيا عن دموع البصل.

حين ننفعل نفسيا وعاطفيا فنبكي، تحتوي الدموع على نسبة اكبر من البروتينات، وهي ظاهرة قد تفسر اسباب الشعور بالراحة بعد بكاء انفعالي. فالبكاء في تلك الحالة هو وسيلة لطرد بعض الكيماويات السامة من الجسم، التي تتجمع وتختزن نتيجة لتعرض الإنسان لمواقف مسببة للقلق.

ثم اكتشف فراي حقيقة أخرى، وهي أن الانفعال والبكاء، وأنت وحدك، لا يريح بالقدر نفسه، في ما لو بكيت وشهد دموعك آخر او اخرون، فسارعوا لمواساتك. من المؤكد ان البكاء لاإرادي، اي انك لا تبكي في وجود الاخرين، طلبا لعطف او مواساة، ولكن إذا انفعلت وبكيت ولمح دمعك قريب او حبيب، أدرك انك بحاجة الى العطف والمواساة، فأسرع بتقديمها

تشعر بارتياح وصفاء، تماما كالصفاء الذي يعقب عاصفة.

وان دل هذا على شيء فانما يدل على ان الانفعال هو محصلة تواصل الانسان مع نفسه أولا، لأن التجارب المسببة للدموع هي رسائل موجهة من الخارج الى الداخل تسبب انفعالا عاطفيا. قد لا تعرف أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يذرف الدموع. وقد لا تعرف ايضا ان هذه التجربة الانسانية الفريدة لا تفرق بين الجنسين. حتى سن الثانية عشرة، تبكي البنات والبنين بالقدر نفسه قبل ان تتدخل القوالب الثقافية لنهي الذكور عن البكاء. المهم ايضا هو ان معظم الناس، رجالا ونساء، يفضلون البكاء وهم في عزلة، حتى لا يرى دموعهم الاخرون. ومع ذلك تبين ان البكاء على مرأى ومسمع من الاخر هو وسيلة تواصل نتائجها ايجابية للطرفين.

القنوات الدمعية، اذن لم تخلق في العين اعتباطا، بل لكي تقوم بعدة وظائف بالغة الدقة والحيوية. وليست هذه دعوة لذرف الدموع بمناسبة وبدون مناسبة، وانما للتذكير بأنك قد تفتعل ضحكة ولكنك لا يمكن ان تفتعل البكاء الا لو كنت ممثلا محترفا.

في الزمن القديم قال ارسطو، ان المرأة اكثر تعاطفا من الرجل، ودلل على ذلك بأنها سريعة البكاء. لم يقل ارسطو ان المرأة تبكي والرجل لا يستطيع البكاء. كل ما هنالك هو ان الاعراف أبت إلا أن تحرم الذكور من صمام أمان عاطفي شديد الاهمية، ووسيلة تواصل إنسانية تكفل له الإحساس ببعض الراحة حين يبلغ الحزن او الألم منتهاه.