تسويق المبادرة العربية

TT

تسويق المبادرة العربية كان محور المؤتمر الصحافي، الذي عقده كل من وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل والأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى في القاهرة. ورغم احترامي الشديد لخبرة الرجلين الدبلوماسية، إلا أن موضوع تسويق المبادرة يحتاج إلى كلام «في العظم»، قبل أن ندخل في طريق تنفق الأموال والجهود فيه وقد تكون نهايته الفشل.

وسأبدأ من بديهيات علم العلاقات العامة الخاصة بموضوع التسويق. ففي أي عملية تسويق، ولتكن تسويقا لمكيفات هواء أو مساحيق تجميل مثلا، لا بد من الإلمام بثلاثة أمور أساسية وهي: أولا، الإلمام التام بالمنتج وعيوبه وميزاته. ثانيا، إدراك للسوق ومتطلباتها. ثالثا، أن يكون المسوقون من مروجين وبائعين ومعلنين على درجة عالية من المهنية والكفاءة والمصداقية. وفي ظني، أن المبادرة العربية للسلام (منتج) جيد، يمكن تسويقه إذا ما تمت إعادة تغليفها (Repackaging) بطريقة تقبلها السوق المحلية والعالمية، وبالطبع إذا ما لبت متطلبات السوقين.

ولكي يكون الكلام «في العظم» فعلا، لا بد من مصارحة الدبلوماسيين المخضرمين، الأمير سعود الفيصل والأمين العام عمرو موسى، بأن أكبر تحد يواجهانه في تسويق المبادرة هو السوق العربية وليست السوق العالمية. لذا، أقترح على الرجلين أن ترسل أولى وفود التسويق إلى المحطات التلفزيونية العربية (المناضلة)، الفضائية منها والأرضية، الحكومية منها والخاصة، لإقناعها بأننا نتجه نحو السلام، وأنه قد آن لهذا الفارس الذي يمتشق سيفا من الكلام والجعجعة الفارغة أن يترجل. فإذا ما نجحت هذه الوفود في إقناع الإعلام العربي المتلفز بتبني مبادرة السلام، فإن فرص نجاح تسويقها في الغرب ستكون عالية. أما في حال فشلها في بلداننا، فلا أظن أن هناك داعيا لإقناع الآخرين بها، خصوصا أن (السوق) الغربية معقدة ولا يعرفها جيدا المروجون للمبادرة، وسيكون من الحكمة أن توفر الأموال التي ستنفق على تذاكر السفر والإقامة وخلافه، لتصرف على شيء أفضل.

كما أقترح أن تشكل لجنة تدرس لماذا فشل موقعو اتفاقيات السلام في مصر والأردن في تسويقه داخليا رغم ما حققه السلام من مكاسب للشعبين. فمن باب أولى للحكومات العربية أن تفهم لماذا لم تستطع القاهرة وعمان أن تسوقا لشعبيهما سلاما قد حدث بالفعل وله منافع عدة، قبل أن تتبنى الترويج لمشروع سلام أوسع لم يحدث بعد. فإذا ما توصلت لجان الجامعة العربية إلى نتائج في دراسة هذه الظاهرة في مصر والأردن، ومعرفة ما هي العراقيل النفسية والذهنية، التي تربك تسويق السلام في هذين البلدين، عندها ستكون البداية طيبة لفهم كيفية تسويق السلام في كافة البلدان العربية.

وحتى لا أتهم بأنني (خواجة) لا يقف على حقائق الأمور على الأرض، فأنا أدرك تماما بحكم أني أعيش في الصعيد أكثر مما أعيش في لندن وواشنطن، أن البشر في بلداننا، هم ككل البشر في هذا الكون، يتطلعون إلى العيش بأمن وسلام والحصول على فرص كريمة للعمل والعلم والحياة، لكن المستوطنات الراديكالية والإسلاموية التي تسيطر على الإعلام العربي، (تزن) في رؤوس الناس ليل نهار وتعبئهم ضد السلام وتحشدهم لـ(نضال) وهمي لانهائي يدفعون هم لا أحد سواهم ثمنه. ففي مصر وحدها، أكثر من عشر قنوات تلفزيونية وأكثر من مائة صحيفة كلها ضد السلام، ولا صحيفة واحدة أو قناة تلفزيونية واحدة ضد هذا التيار، ولو من باب التنوع والتعدد! في هذا السياق، خطرت لي صفقة قد يقبلها الإسرائيليون، وهي: «تفكيك المستوطنات مقابل تفكيك المستوطنات». أي أن يفكك الإسرائيليون المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية، مقابل أن يفكك العرب المستوطنات (النضالية) المعبئة ضد السلام في الإعلام العربي. بقدر ما تبدو هذه الصفقة غريبة بقدر ما هي حقيقة الصفقة الأضمن لتحقيق السلام. إن تسويق الحروب والكراهية أسهل بكثير من تسويق السلام والتعايش الآمن. لذا لا بد لصناع السلام في المبادرة العربية اليوم أن يدركوا أن تسويق السلام في (السوق) العربية سيكون عملية شاقة إلى أبعد الحدود. وما علينا إلا أن نسترجع الأسئلة التي وجهها الصحافيون العرب في المؤتمر الصحافي، الذي عقده كل من وزير الخارجية السعودي والأمين العام للجامعة العربية في القاهرة، لندرك حجم العمل الكبير الذي ينتظر المروجين لهذه المبادرة، ولن آتي هنا على ذكر (ربيع) لتأكيد ما أقول.

هذه هي البداية الجادة في عملية تسويق المبادرة، أن نبدأ بأنفسنا. إذ لا يستقيم للعقل أن نرسل دبلوماسيينا إلى (السوق) العالمية للترويج لمبادرة لم يقتنع بها إعلامنا وناسنا بعد. ولك أن تتخيل كيف سيكون موقف دبلوماسي مصري يروج لهذه المبادرة في بلد ما، فيخرج له الدبلوماسي الأوروبي مجموعة من «منشيتات» الصحف المصرية في أي صباح، التي لا بد أنها تلعن المبادرة والسلام.

وبالعودة إلى بديهيات علم التسويق، فإن المسوقين هم من أهم الأسس التي يقوم عليها التسويق الناجح. وهنا أقولها صراحة، المبادرة العربية تحتاج إلى مسوقين يتمتعون بالمصداقية والجدية العالية، لا أن تحشى اللجان بمجموعات عمل من نوعية البيروقراطيات العربية، ولا أن يرسل الأمين العام للجامعة العربية جيوشا دبلوماسية إلى العواصم الغربية تتحدث لغة لا أحد يعرفها سوى من أنتجوها في وزارات الخارجية العربية المختلفة. لا بد من انتقاء وجوه جديدة (Fresh Faces) وأصوات جديدة للترويج للموقف العربي، وإضافة عدد من النساء إلى مجموعات العمل، نساء يحظين بالاحترام الدولي ويفهمن العالم الغربي الذي سيروجن فيه.

أتفق مع الأمير الفيصل بأن الرأي العالمي اليوم قد تغير. فالسياق العالمي في مصلحة المبادرة العربية، أو بالأحرى في صالح دور عربي فاعل وقوي (Aggressive)، خصوصا في أجواء تنسحب فيها الولايات المتحدة عن أدوارها السابقة، وفي أجواء انحدرت فيها شعبية رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت إلى ثلاثة في المائة، أي لو أن أولمرت طلق زوجته وتركه أولاده ستصل شعبيته إلى صفر في المائة. هذه فرصة للعرب أن يخاطبوا الرأي العام الإسرائيلي مباشرة، وأن تنتج في إسرائيل قيادة معتدلة غير قيادة أولمرت.. ولكن، بما أن معظم العرب لا يذهبون إلى إسرائيل ولا يعرفونها، فما عليهم إلا الاعتماد على فلسطينيي الداخل للترويج للمبادرة ومخاطبة الإسرائيليين مباشرة، أو على بعض الأردنيين الذين يقبلون الذهاب إلى إسرائيل، فلا بد من (حرق) بعض الوجوه في سبيل الترويج للمبادرة، عملية (الحرق) ستقوم بها طبعا المستوطنات الراديكالية والإسلاموية في فضائيات وصحف (النضال اللانهائي) العربية.

المبادرة العربية بصيغتها الحالية هي (بضاعة) يمكن تسويقها، ولكن كما ذكرت في بداية المقال، لا بد من إعادة تغليفها على الأقل، وهنا سأذكر طريقة واحدة من عدة طرق ممكنة لإعادة تغليف أو طرح المبادرة.

يمكن للمروجين للمبادرة الحديث عنها على أنها تصور عربي وإطار جديد للأمن الإقليمي (New Security Framework)، أي أن العرب يرون في عملية حل الصراع العربي الإسرائيلي بداية تصور أوسع للأمن الإقليمي، الذي سيشمل إسرائيل بالطبع. مثل هذا الطرح سيأخذه القائمون على الشؤون الأمنية في الدول الكبرى مأخذ الجد، كما أن معاهد الأبحاث الجادة ستعيد النظر في طريقة تناولها للمبادرة العربية. هذا مجرد مثال عن إعادة تغليف المبادرة. عملية تسويق المبادرة العربية تلزمها شجاعة تماثل شجاعة إطلاقها من قبل الملك عبد الله بن عبد العزيز، أما أن يكون تسويقها ضعيفا ومرتهنا لابتزازات الإعلام العربي، مثل حول من تحدث مع الإسرائيليين، أو من قدم اقتراحا لمن، أو من يلعب الدور الأساسي اليوم مصر أم السعودية، فإن ارتهانا كهذا سيحكم على المبادرة حتما بالفشل.

تأكيد أخير للجامعة العربية:

إن كنا سنبيع أجهزة تبريد فلا بد أن نسوقها في المناطق الحارة، وليس في القطب الشمالي، وإن كانت لدينا أجهزة تدفئة للبيع يجب ألا نتوجه بها إلى حر أفريقيا.. وإن كنا سنبيع أحمر شفاه فلا بد أن يكون لدينا مسوقات بشفاه لامعة.. التسويق يحتاج إلى معرفة السوق وإعادة تغليف المنتج وحسن اختيار المروجين.. وعسى أن تنفع ملحوظتي هذه في إعادة النظر في فرق العمل لتسويق المبادرة العربية للسلام، التي شكلتها الجامعة العربية أو ما زالت في طور تشكيلها.