الصيف ضيعت اللبن

TT

هذا مثل عربي يضرب فيمن ضيع فرصة عزيزة، والحقيقة فإن الموقف العربي يقدم مشهداً سريالياً غريباً: العرب وهم رواد استنارة تاريخية في العالمين الإسلامي والأفريقي يعيشون غالباً في ظل نظم تهدر الكرامة وتصادر حقوق الإنسان. بينما غيرهم في العالمين الإسلامي والأفريقي يعيشون غالباً في ظل نظم تحظى بدرجات من الديمقراطية.

وفى الإطار العربي نفسه، فإن غالبية النظم التي شقت حجاب الشمس بشعارات التقدمية والثورية تعاني من حالات التكلس، والتردي، والتجريم، لا بل الهزء بالذات في وقت فيه تظهر علامات حيوية في عدد من النظم التقليدية التي رشحوها للإبادة.

فمملكة تقود الاعتراف بتعديات الماضي والاعتذار عنها، والتأهب لإصلاح سياسي. ومملكة تتصدى للفراغ الذي تركه انهيار النظام العربي بمبادرات مؤثرة، وإمارة تجعل من عاصمتها «سوق عكاظ» لمنابر استنارة، وتقيم منبراً إعلامياً يبز الإعلام العالمي في ميدانه، وإمارة تحيط بمسالك العولمة وتجعل من نفسها مركزاً عالمياً للتجارة والتسوق والسياحة الأولمبية.. إن لله في خلقه شؤونا!

الحالة السودانية نموذج لهذه الثورية الدعائية التي زحمت الأثير بعنتريات: الاكتفاء الذاتي، وبز العالم أجمع، ورفع الأذان في الفاتيكان، فما حققت إلا عكس مقاصدها وعرضت الوطن للتشظي وسلمت مصيره لغير أهله:

التدويل الناعم والخشن، حجم الرافع الإقليمي والدولي الضخم في محادثات سلام نيفاشا، وفقدان الثقة بين المفاوضين السودانيين الذي دعمه سجل المؤتمر الوطني الحافل بنقض المواثيق أدى للتدويل الناعم عبر قرار مجلس الأمن 1590.

مشاكل دارفور التي أزمتها سياسات النظام السوداني وأحدثت فيها ظاهرة الإثنية المسيسة، والمقاومة المسلحة، والمأساة الإنسانية الفادحة، أدت إلى التدويل الخشن عبر قرارات مجلس الأمن وأرقامها: 1556 ـ بتاريخ يوليو 2004، 1591 ـ بتاريخ مارس 2005، 1593ـ بتاريخ مارس 2005، و1706 ـ بتاريخ أغسطس 2006.

كيف ومتى وقع الخطأ؟ 

الخطأ الأول هو إقدام حزب أقلية مسكون برؤية دينية أحادية على استيلاء انقلابي على السلطة، وتطبيق تلك الرؤية على مجتمع متعدد الأديان والثقافات والمذاهب والأحزاب بالقوة الجبرية، من دون إحاطة مدروسة بالواقع ومن دون وضوح برامجي إلا فيما يتعلق بالتمكين، ونفى الآخر، بل محاولة إعدامه فكرياً سياسياً.

وعندما انفجرت أزمة دارفور، توهم الانقلابيون أن إبرام اتفاق نيفاشا قد منحهم من الشرعية داخلياً، والرضا دولياً ما يبيح لهم قمع المقاومة بلا هوادة، فاتخذوا سياسة قمعية متشددة، وأباحوا لأنفسهم استغلال التناقض الإثنى في المنطقة، وأدت الاشتباكات المروعة لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، قتلت وشردت مئات الآلاف من المواطنين، وحركت ضدهم الضمير الوطني والرأي العام العالمي بالصورة التي جسدتها قرارات مجلس الأمن العالقة.

إمعانا في الخطأ همش الإنقلابيون المجتمع السياسي والمدني السوداني. بل قال قائلهم إنهم لا يفاوضون إلا حملة السلاح. وحتى هؤلاء اتخذوا معهم موقفاً تفاوضياً محكوماً بسقوف اتفاقية نيفاشا، لأنها ضمنت لحزبهم الهيمنة. هذا الموقف حظي بدعم الرافع الإقليمي (نيجيريا وكينيا) والرافع الدولي (أمريكا) غير الملم بحقائق الواقع السياسي السوداني. لذلك عجزت اتفاقية ابوجا عن تلبية المطالب الدارفورية. أما اتفاقية اسمرا فقد كانت ثمرة مصالحة بين المؤتمر الوطني السوداني، والجبهة الشعبية للعدالة والتنمية الارترية، وقعت عليها جبهة الشرق السودانية من دون مشاركة شاملة لأهل الإقليم.

هذه الاتفاقيات لم تحقق سلاماً عادلاً شاملاً، ورهنت التحول الديمقراطي لإرادة حزب المؤتمر الوطني، وفي هذا المناخ المضطرب، جعلت الذين حصلوا على مكاسب محدودة يحرسونها باستمرار بتنظيماتهم المسلحة. وفتحت شهية آخرين للتلويح بالعمل المسلح، باعتباره الأسلوب الوحيد للاعتراف بالحقوق السياسية.

التدويل هو تدخل المجتمع الدولي عبر مؤسسة شرعية عالمية ووكالاتها ـ أي الأمم المتحدة ـ أو عبر مؤسسة إقليمية كالاتحاد الأفريقي في شأن داخلي لدولة ما، أو في نزاع ينشب بين دولتين أو أكثر. والتشظي السياسي هو اشتباك النخب السياسية في تنازع واحتراب بمرجعيات جهوية وإثنية. والأمران يعتبران ضمن مقاييس أخرى دليلين على الدولة المتردية، وهي وصف للحالة السودانية وغيرها كساحل العاج، والكونغو، وأفغانستان، والعراق، والصومال وغيرها.

ومهما كانت نوايا الانقلابيين، فإنهم بسياساتهم وضعوا السودان على شفا حفرة التشظي والتدويل. ولا يشفع لهم الاحتجاج بتآمر الآخرين، فالدول الأخرى لها مصالحها ورؤاها وسوف تتخذ لها من أي ثغرات متاحة منافذ، والحفاظ على الأمن القومي يوجب سد تلك الثغرات.

في مراحل سياسية ماضية، وصل السودان إلى طريق مسدود، واستطاع مجتمعه السياسي والمدني تجنب الوقوع في الهاوية. حدث هذا عشية الاستقلال وحدث مرة أخرى عندما حل الفريق إبراهيم عبود مؤسساته الانقلابية وفاوض المجتمع السياسي والمدني على مخرج وطني سلمي.. اليوم الحالة أكثر خطورة وأكثر تعقيداً، ولكن درجة التسامح الدفينة في الخلق السوداني، ربما أسعفت أهله في الساعة الحادية عشرة: الإقدام على مؤتمر قومي دستوري يحول دون منتهى التشظي والتدويل وتدمير الوطن.

اتفاق القوى السودانية السياسية المسلحة ضروري ومطلوب لوقف إطلاق النار، ولكنه وحده ليس كافياً لبناء السلام وضبط التحول الديمقراطي.

حسن نوايا الجيران والأسرة الدولية مطلوب، لكنه لا يستطيع هندسة خريطة السلام وبناء الوطن، كما يتوهم الواهمون فهؤلاء غير مدركين «لشعاب مكة». وبصرف النظر عن تجاربنا التي حققت الإجماع الوطني الذي تم مرتين في عام 1956 وفي عام 1964 وبصورة مختلفة في عام 1985 فإن الساحة العربية الأفريقية حافلة بالنماذج، وكان آخرها وأكثرها عبرة للسودان في محنته الحالية ما جرى في الشقيقة موريتانيا.

في مقال سابق كتبت عن العبرة الموريتانية التي هندسها علي محمد فال، وزملاؤه فصارت العظة لمحتكري الأمر في السودان: تمترسوا تفللوا (من الفلل) وتفولوا (من ود فال) تفلحوا: «يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» سورة البقرة الآية (269).