بين كركوك وآبيي: خواصر الوصل والفصل

TT

ربما يكون الخميس قبل الماضي يوما فاصلا في حياة العراق والسودان! فيه دعا قائد للجيش التركي لعملية عسكرية شمال العراق لتعقب من أسماهم بالمتمردين ليختتم ملاسنات استمرت لشهور حركها بالأساس الجدل حول مصير مدينة كركوك، وفيه شدد برلماني سوداني جنوبي على أن وضع منطقة آبيي تحت إدارة مؤقتة لستة أشهر يهدد بالعودة للحرب بين الشمال والجنوب، التي استمرت عقوداً قبل أن تطفئها الاتفاقات منذ 2002.

هناك من المشاكل السياسية بالمنطقة العربية الكثير، وعلى تشعبها فإن تصنيفها يبقى أيسر من حلها، مؤخراً تتكرر الإشارة لقضيتي كركوك بالعراق وآبيي بالسودان. مثالان للتنازع على مناطق مختلطة قوميا ومذهبيا، تنحصر بين كتلتين تدعي كل منها نسبة هذه المنطقة لها، وتزداد ضراوة المعارك غالباً عند اكتشاف مورد هام مثل البترول (كركوك 900 ألف نسمة حسب توقعات إحصائية العام الماضي، وتنتج نحو مليون برميل نفط يوميا، آبيي: 55 ـ 58 ألف نسمة بالإضافة لـ200 ألف نازح خارجها، وتنتج خمسة آلاف برميل نفط يوميا مع احتياطي هائل منه)، وفيما يمكن لبعض المناطق المختلطة أن تشكل معبراً للالتقاء بين طوائف عدة، فإن مناطق أخرى تتحول مجرى للدماء، خاصرة جسد يتنازعونه؛ فإما أن يحل الأمر سلمياً، أو يغدو محور صراع مكتوم يبرز كل فترة منذراً بما سيعصف بالجميع. مع بداية 2007 ارتفع الجدل لاقتراب موعد الفصل في مصير البقعتين وهو للصدفة نهايات عامنا الحالي.

عندما سقط نظام صدام كان أول بيانات الأمين العام للأمم المتحدة متعلقاً بكركوك، منادياً بوقف ما اعتبره مجازر الميليشيات الكردية بحق مواطني المدينة العرب، لتخرج أمريكا بعدها بساعات طالبة من حلفائها الأكراد الانسحاب. وفي السودان كان تخطي الصراع الشمالي الجنوبي على ضم آبيي مفيداً لإكمال مسار السلام في 2004 ـ 2005، خلا الاتفاق النهائي للسلام بين الطرفين في يناير 2005 من حل لقضايا أخرى غير آبيي كالنازحين الجنوبيين بالعاصمة ومشكلة اللاجئين بالخارج، والقضايا الملعقة هي أيضا قنابل معلقة مهما حاول حاملوها توخي الحيطة، فإن انفجارا قد يحدث إن لم تنزع عن أعناقهم.

ويرتبط جزء كبير من ميراث الغضب بين القبائل بآبيي بالغارات المتبادلة بينها عندما كان الرعي والزراعة الموسمية مصدر الدخل الأول، وهاجم المسيرية (عرب) أماكن إقامة القبيلة الكبرى دنكا ـ أنقوق، مدعين وصولهم للبلاد هروبا من موجة تصحر في نهايات القرن التاسع عشر فقط، يرى خبراء أن التحول نحو نمط حديث من الإنتاج بوسعه أن يتفادى تكرار تلك الحوادث ويختصر كثيراً من الطريق لتعايش آمن مستقبلاً.

في كركوك لم يكن العنف هو مسلك مواطني القوميات الكبرى بها (أكراد وتركمان وعرب وكلدوآشوريين)، وإن شهدت فترات في بداية القرن المنصرم قلاقل بصبغة دينية بين الأكراد والآشوريين على خلفية اقتتال في الموصل المجاورة. في الثمانينات بدأ بطيئاً توطين عوائل غالبها من الجنوب ـ عربا وشيعة بإغراءات كبيرة، ونشأ جيل جديد من هذه الأسر، وفي التسعينات قام صدام بترحيل الأكراد وبدرجة أقل التركمان ـ ممن رفضوا تغيير قوميتهم في الوثائق الرسمية لعرب، وعرضت الحكومة الحالية تعويضات لإعادتهم وبدء حياة جديدة خارج كركوك، التصريحات متناقضة من كل الأطراف- وداخل كل فصيل ـ حول عدد من قبلوا العودة! ورغم سخاء العروض الكردية أتت استجابة العوائل الكردية المرحلة عن المدينة للعودة محدودة؛ كونهم «انتقلوا لحياة المدينة ومن الصعب عليهم قبول العودة لقرى مهمشة تنمويا في حين الوضع الأمني العام بها مضطرب» حسب معلق كردي.

يفتخر جيل أقدم من أبناء كركوك أنهم يعرفون لغات بعضهم، يقول عامل بمطعم على الطريق في طوزخورماتو «نحن بأربعة ألسنة.. نحن راديو بأربع موجات»! وفي آبيي يصف البعض الدينكا أنهم مسيرية طوال القامة (الدنكا أطول المجموعات البشرية بالعالم). تم تعريف آبيي في البروتوكول الخاص بتنظيم مصيرها بأنها جسر التقاء بين الشمال والجنوب، ووصفت كركوك بأنها نموذج لعراق مصغر وباقة من مختلف الزهور.

من كركوك خرجت أكبر الحركات الأدبية العراقية في الستينات، رموزها من كل انتماء، ومن آبيي خرج مثقف من طراز نادر هو فرانسيس دينق، له من الإخوة عشرات من قبائل وأديان عدة وهو ما ظهر في نتاجه الأدبي.

لكن رأي المثقفين والعامة لا يطابق بالضرورة رأي الساسة الذين يدعون تمثيلهم، تتفاوت مواقف القوى العراقية بشأن كركوك، فأحزاب العراق العربية في الوسط والجنوب تضع قضية كركوك بعد قضايا أخرى أكثر محورية لديها، ويستخدم الدين والقومية أحيانا للتعبئة، يبدو الأمر مختلفاً حول آبيي، الاحتكام لمواثيق تاريخية ولجان الخبراء يشغل المتنازعين أكثر من غطاء الدين والعرقية، ترفض الأحزاب الشمالية الرئيسية بالسودان ضمها للجنوب، وتتمسك بها الحركة الشعبية لتحرير السودان، لا يشذ عن هذا الموقف من قادة الجنوب سوى بونا ملوال (وهو من مؤسسي التاريخيين لحركة أنانيا الأولى التي قادت أول تمرد ضد الخرطوم، ومهدت لميلاد الحركة الفصيل الأكبر بالجنوب منذ الثمانينات).

مواطنو آبيي الذين التقيت بعضهم بمصر، منقسمون حسب الانتماء لكنهم أعلنوها صراحة «لن نقاتل من جديد»، قال أحدهم إنهم جربوا إدارة الخرطوم للمنطقة ولم يحصدوا الكثير، وقد لا يمانعون في إدارة الحركة للمنطقة، وإن تخوفوا من سيطرة العسكر عليها، الجميع اتفق على أنهم لا يخشون مواطني القبائل الأخرى «نخشى تقلبات العسكر والحكام». الطريف أن الشمال يحكمه العسكر، والحركة الشعبية ما زالت شبه عسكرية بحكم تاريخها في النضال/التمرد. في كركوك أيضاً الأحزاب التركمانية الأكثر تشددا، تجد في الجيش التركي تعضيدا لموقفها، شخصيات كردية تعلن أن الدم وحده ثمن انفصال كركوك عن إقليمهم. حاول مقتدى الصدر صيف 2003 أن يوجد له قاعدة هناك واستخدم أنصاره القوة، اعتمد أنصار البعث والقوميون على مخاوف عرب المدينة للحديث باسمهم، لكن المؤكد أن أحدا منهم لا يملك الشعبية الفاصلة هنا، عمليا تملك معظم الفصائل استخدام القوة ويعتبرونها خيارا واردا على الدوام.

يبرز من داخل الاتحاد الوطني الكردستاني رأي لعدنان المفتي رئيس البرلمان الكردي المتحدر من أربيل التي ضمت دوماً تركمان وآشوريين بجوار الغالبية الكردية، يرى أن الاستفتاء على مصير المدينة خطوة هامة مع حتمية قبول نتائجه أيا كانت من الجميع. يمثل المفتى اتجاها داخل الاتحاد الذي يتحدر أمينه العام (ورئيس العراق الحالي) السيد جلال طالباني من كركوك. تراوحت تصريحات طالباني بعد سقوط نظام صدام بين حق المدينة المطلق في تقرير مصيرها، صورة شهيرة له وهو يعلن ممسكا بالخرائط ووثائق الرحالة أنها جزء تاريخي من كردستان، اقتراحه أن تدار المدينة برئاسة ثلاثية تتبدل كل عام، تمسكه بأنها جزء إداري من الإقليم الكردي الذي يسيطر حزبه على محافظة واحدة منه (فيما يسيطر الحزب الديموقراطي بقيادة مسعود برزاني على اثنتين مع نفوذ في الموصل المجاورة). يبدو برزاني أكثر حدة في طرح آرائه، لا يدخل في التفاصيل ويكرر تصريحات تغضب دوماً أنقرة ـ حليف برزاني لسنوات التسعينات في حربه ضد طالباني وحزب العمال الكردستاني/ التركي الذي كان (ولم يعد) محل ترحيب في إقليم كردستان.

وعد الحزبان الكرديان المدينة برخاء اقتصادي كبير، دعما أحزابا تركمانية محدودة الشعبية، وبالمثل وبالتعويل على البترول أطلق المتنازعون حول آبيي الوعود بتنمية شاملة لكن لم يهتموا كثيرا بكسب ود أحزاب من القوميات الأخرى، إلا أنه في البقعتين لم يقدم أحد بوضوح التزامات بالمساواة «التامة» بين كل مواطني المنطقتين إذا آلت له.

يلعب عامل الوقت دورا هاما في تهدئة أو إشعال الأزمتين، كان الأكراد يطالبون بتأجيل الاستفتاء حول كركوك حتى يعيدون الخارطة الديموجرافية لما قبل حملات التعريب، رفع على مدخل كركوك بالكردية عبارة «كه ركوك د لي وقودسي كوردستانه» أو كركوك قلب وقدس الأكراد، وأقام عرب مؤتمرات ضمت عناصر محسوبة على نظام صدام، يتمسك الأكراد بتطبيق كامل للمادة 140 من الدستور حيث يتوجب إجراء استفتاء بعد تطبيع الأوضاع، لم تعد المدينة هادئة في العامين الأخيرين، إذ طالها العنف العام في مدن الوسط والعاصمة، أنقرة تهدد، وتمنع التجارة عبر مناطق السيادة الكردية، يتدخل طالباني ويهدئ، لكن برزاني يواصل التصعيد، فتحشد أنقرة جيشها على بعد كيلومترين فقط من حدود العراق بحجة أخرى هي بقايا حزب العمال الكردستاني؛ وهم بضعة مئات في جبل قنديل لا حول لهم ولا قوة، ينهي رئيس وزراء الإقليم الكردي نيجيرفان برزاني تصريحات عمه بالقول «ما أخذ منا بالقوة سيسترد بالوسائل الديمقراطية».

كان تأخر البت في قضية آبيي مدخلا لنزاعات شريكي السلام والحكم؛ وأصبحت العقبة الثانية بعد اتهامات الفساد المتبادلة، يتنبأ كثيرون أن آبيي مرشحة للانفجار مثلما «صرح» نائب رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان باقان أموم في يناير الماضي، والترابي ـ شريك الأمس في الحكم بالخرطوم ـ في الشهر ذاته، وكما «هدد» جيمس اجينق ممثل آبيي بالبرلمان عن الحركة الشعبية في نفس يوم تهديد أنقرة باجتياح عسكري!

تحتاج مثل هذه الخواصر لدراسات وأبحاث ممتدة زمنياً، يوجد الكثير مما يمكن اختباره ولم يتم التطرق له هنا، لكن ما يشغلني الآن وسيبقى حتى نهاية العام تساؤل: هل سينهي المتنازعون حول آبيي وكركوك الأمر بتحكيم العقل، أم أن ميراث اللجوء للسلاح سيغلب؟

* صحافية مصرية