فرنسا ما بعد شيراك

TT

خلال هذه الساعات تكون نتيجة الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية قد اتضحت. وإذا صدقت استطلاعات الرأي سيدخل مرشح اليمين نيكولا ساركوزي الدورة الثانية مع أحد اثنين من منافسيه هما المرشحة الاشتراكية سيغولين روايال والمرشح الوسطي فرنسوا بايرو.

قبيل التصويت كانت روايال تحتل المرتبة الثانية خلف ساركوزي متقدمة على بايرو بفارق بسيط يقع ضمن هامش الخطأ الاحصائي. ومن المفترض ـ أو المنطقي ـ أن معسكر اليمين يفضّل ان تكون «معركة الحسم» في الدورة الثانية بين مرشحه ساركوزي والمرشحة الاشتراكية، لأن الناخب سيجد نفسه إذ ذاك أمام خيارين قاطعين: ... فإما اليمين الديغولي ولو بوجه أكثر يمينية وتشدداً من جاك شيراك ... أو اليسار الاشتراكي بوجه أكثر اعتدالا من فرنسوا ميتران وليونيل جوسبان.

وهنا أحسب أن «السيناريو» الذي لا يريده اليمين الديغولي هو مواجهة مفتوحة مع بايرو في الدورة الثانية يمكن أن يكسبها بايرو بأصوات اليسار. فاليسار بما فيه المعتدلون الاشتراكيون أميَل إلى دعم مرشح الوسط من دعم ساركوزي.

وهذا، إذا ما حصل، سيعيد التاريخ نفسه بصورة مقلوبة... عندما ربح فاليري جيسكار ديستان (مرشح الوسط/اليمين المعتدل يومذاك) الرئاسة عام 1974 بعدما تجاوزت أصواته في الدورة الأولى أصوات المرشح الديغولي ورئيس الوزراء السابق جاك شابان دلماس. وفي الدورة الثانية اضطر الديغوليون بتحرك نشط من شيراك إلى دعم جيسكار في المواجهة الحاسمة بالدورة الثانية ضد فرنسوا ميتران مرشح اليسار الاشتراكي ـ الشيوعي ... ويومها تمكن جيسكار من الفوز بفارق بسيط حاصلاً على 50.8% من الأصوات الشعبية.

خيار الاعتدال ربح أيضاً، كما نتذكر جيداً في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

فقد فجّر مرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبن مفاجأة ضخمة بتجاوزه المرشح الاشتراكي ورئيس الوزراء السابق ليونيل جوسبان في الدورة الأولى، وتأهله للدورة الثانية وجهاً لوجه ضد شيراك.

وهكذا كان طبيعياً أن يعضّ اليسار على الجرح ويصوّت لخصمه التقليدي «اللدود» شيراك على اعتبار أنه يظل «أهون الشرّين» في أي مفاضلة بينه وبين اليمين العنصري ... وكانت النتيجة اكتساح شيراك المعركة باغلبية ضخمة حاصلاً على نحو 82% من الأصوات.

في مطلق الأحوال، كل التوقعات تشير هذه المرة إلى استبعاد مفاجأة جديدة من لوبن.

وبالتالي، فالسباق على مفاتيح الإليزيه محصور بين ثلاثة مرشحين يُعتبَرون من صف الاعتدال الرصين القادر على التعايش ليس فقط ضمن شروط اللعبة السياسية داخلياً، بل أيضاً مواصلة قيادة السياسة الخارجية الفرنسية ضمن الرؤية المؤسساتية للمصالح العليا للبلاد.

فالقوى الثلاث التي استند إلى دعمها المرشحون الثلاثة سبق لها أن حكمت من قصر الإليزيه وتعايشت مع معارضيها، فمارست ما يعرف بـ«المساكنة» Cohabitation السياسية غير مرة، عندما كان احد تياري اليمين أو اليسار يحتل قصر الرئاسة بينما يستحوذ التيار المناوئ على غالبية مقاعد البرلمان.

من هنا، وبالرغم من «شخصانية» السياسة الفرنسية مقارنةً مع مثيلاتها في أوروبا الغربية، وبخاصة بريطانيا والمانيا، تبقى «المؤسسة» أقوى من أي قائد تاريخي.

هذا ما اكتشفه جورج كليمنصو ... ومن بعده شارل ديغول ... ثم فرنسوا ميتران وجاك شيراك.

لا أحد أكبر من فرنسا... كائناً من كان.

لا أحد بمعزل عن الشعب الفرنسي وخياره الحر، يستطيع وحده تعريف مصلحة فرنسا.

وحتى ديغول قائل العبارة الشهيرة حول صعوبة إرضاء الفرنسيين «كيف يمكن لأحد أن يحكم بلداً فيه 246 صنفاً من الجبنة؟»، والذي توهم ذات يوم أنه عندما يريد أن يعرف ماذا تريد فرنسا يسأل نفسه ... استسلم لإرادة الشعب عندما خسر استفتاء ابريل (نيسان) 1969 واعتزل السياسة.

والقصد هنا أن الإيمان بالمصلحة الوطنية العليا في دولة ديمقراطية مؤسساتية كفرنسا تعلو على أي مصلحة والولاء لها أقوى من أي ولاء.

كثيرون في العالم العربي ـ حيث لا مؤسسات ولا مَن يؤسسون ـ يتساءلون عن مواقف فرنسا المستقبلية من مشاكلنا العويصة بعد خروج شيراك من دائرة الضوء التي احتكرها لمدة 12 سنة.

ولهؤلاء الحق في التساؤل. فهم لم يعرفوا في أوطانهم إلا أن الأحزاب مستنسخات طائفية أو عشائرية أو شللية ـ ارتزاقية، وأن الأغلبيات البرلمانية «دائمة» ونتائج الانتخابات محسومة سلفاً، وأن تداول السلطة عديم الصلة حتى بـ«الديكور» البرلماني، وأن الفصل بين السلطات... في خبر كان وما فتئ وما انفك!

الحقيقة، أن جاك شيراك، كونه وريث الديغولية و«ربيبها»، كان يؤمن باستقلالية فرنسا في عالم يعيش في ظل الأحادية الأميركية، وبـ«اوروبا» قوية لها قرارها المستقل عن هذه الأحادية، ويؤمن أن في العالم العربي أرضاً خصبة لعلاقات وثيقة تستفيد من أخطاء واشنطن والشك بنيات موسكو.

هكذا كان تفكير ديغول إزاء السوق الأوروبية المشتركة (التي أصبحت اليوم «الاتحاد الأوروبي») معارضاً انضمام «لندن الأميركية» إليها، وهكذا كانت توجهاته إزاء استقلال الجزائر والصراع العربي الإسرائيلي. صحيح، شيراك ابن هذه «المدرسة» التي ترفض اعتبار فرنسا «قوة من الدرجة الثانية». لكن الثلاثي الذي انحصرت بين أفراده معركة الإليزيه لا تتناقض مبادئه مع هذه المبادئ بدليل ما شهدناه على امتداد رئاستي جيسكار وميتران، ... والمسألة لن تخرج في نهاية المطاف على الأرجح على اختلاف الأسلوب.