كتابة التاريخ مسألة موضوعية

TT

كان جمال عبد الناصر بشراً. لكنه كان بشراً عظيماً. وكان عسكرياً نبيلاً وسياسياً صادقاً، لكن القدر شاء أن يخطئ في الاستراتيجية ويهزم عسكرياً ويخسر سياسياً. وكان قومياً متقداً وفؤاداً رقيقاً وفلاحاً طيباً، لكنه رزئ برجال يقتلون رفاقهم ويوسعون السجون من حوله ويعرّضون الحلم المصري العربي الكبير لإحدى أفظع وأسوأ وأردأ النكبات التي حلت بالأمة وقصفت ظهرها وبددت أحلامها وحولت رجالها إلى مهاجرين ومشردين في بلاد الغير.

ومن العيب تقييم حلم عبد الناصر ومرحلته ومسيرته على أنها فشل ونكبة. يجب أن نضع في أي تقييم نيته الطيبة والعظيمة وحلمه الصادق للدولة العربية. ويجب أن نأخذ دائما في الاعتبار الظروف الموضوعية التي جعلته ـ مثلاً ـ يطرد القوات الدولية من شرم الشيخ، ويشرِّع أبواب مصر أمام الهزيمة والاحتلال. ويجب ان نتفهم لماذا قبل «مشروع روجرز» وتراجع عن عشرين عاماً من الصمود. ويجب أن نعيد دائما قراءة الظروف الضارية التي أحيط بها يوم انفصلت سورية، ويوم تذابح الفلسطينيون والأردنيون. ومن أجل أن نفهم ظروف الزعيم يجب أن نقرأ في صورة خاصة مؤرخه الأول الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي يروي لنا خيانات حزيران وخوف عبد الناصر من عبد الحكيم عامر وردة فعل الجيش، وماذا فعلت المخابرات، ولماذا كانت هناك حالات وحشية دمرت النفس المصرية وأذلتها.

التاريخ يقرأ كما هو. وهو ليس صفحة واحدة مكتوبة بجملتين، واحدة تؤكد بطولة الذات وأخرى تثبت هزيمة الآخر. الدول والأمم تحولات وظروف ومواجهات. إذا كانت السعودية وفقاً للأستاذ هيكل أخفقت في وساطتها بين الفلسطينيين، فإن عبد الناصر قتله قرفه من خلافات العرب وصراعاتهم وهدّ قلبه. ولا ندري الى متى سوف يظل هيكل يكتب التاريخ بوجهة واحدة ويردد لازمة واحدة ويقدم قناعة واحدة، ناسياً أن عليه مسؤولية ليست على سواه، فهو ليس مؤرخاً عادياً ولا صحافياً عادياً، بل مسؤول سياسي وفكري خلال مرحلة بالغة الأهمية من تاريخ الأمة.

لا يمكن الجمع بين صفة ومناقب وشروط وأحكام المؤرخ، وبين الجور في عملية التأريخ والاستمرار في روحية الثأر ومتابعة حرب اليمن في الستينات على أحوال ومصير الأمة في عام 2007. لقد خاضت السعودية صراعات مع مصر الناصرية على حدودها لا على حدود مصر، وفي مدنها لا في مدن مصر. أما حروب مصر مع إسرائيل فقد خاضتها السعودية الى جانب مصر على نحو لا يعرفه أحد قدر ما يعرفه الأستاذ هيكل. وكذلك خاضت حروب صمود مصر، عسكريا واقتصاديا.