وختامه فسـك

TT

لم أكن لأدخل في أي موضوع يخص «الأستاذ» (كما يحلو لتلاميذ محمد حسنين هيكل تسميته)، لولا ألسنة اللهب التي أشعلها حديثه مع الصحافي البريطاني روبرت فسك (صحيفة الإندبندنت، 9 أبريل/نيسان2007)، والتي زاد من اشتعالها ما قاله هيكل في حلقتين قدمهما على قناة «الجزيرة» في محاولة ملتوية لاعتذار بدا فاشلا. ما قاله هيكل لروبرت فسك جد خطير، وما قاله على «الجزيرة» أخطر.

قبل ظهوره الأخير على «الجزيرة»، أطلق «الأستاذ» بالونة اختبار عن طريق أحد تلاميذه المخلصين الذي قدم مذكرة تفسيرية لما قاله هيكل لروبرت فسك، مذكرة لا تقيم للدقة أي وزن أو اعتبار. فقد قال مصطفى بكري، إن «الأستاذ فقط مسؤول عما ورد على لسانه بين القوسين، أما بقية المقال فهو مسؤولية كاتبه»، ثم وضع بكري ما بين الأقواس حسب رؤيته وهي «قال هيكل: إن هناك من يحاول الطلب من ضيوف الرئيس عدم إبلاغه بأي أخبار سيئة، معتبرا أن ذلك يجعل الرئيس يعيش وكأنه في عالم خيالي في شرم الشيخ!» (الأسبوع، 21 أبريل 2007).. لكن الحقيقة هي أن روبرت فسك قال على لسان هيكل وفي اقتباس محدد وبين قوسين: «إن رئيسنا مبارك يعيش في عالم من الخيال في شرم الشيخ»(Our President Mubarak lives in a world of fantasy in Sharm el-Sheikh )، دونما «كأنه» ودونما «ضيوف» يبلغون.. إلى آخر ألاعيب المدرسة الهيكلية التي تضيف وتحذف على هواها. ما قاله هيكل خطير جدا وربما سيكون صادما، لذلك قدم لكلام هيكل بعبارة تقول: «أكاد أرى الرئيس المصري حسني مبارك ـ والذي هو قارئ للإندبندنت ـ يشهق عند قراءة الفقرة التالية». ثم بعدها ألقى فسك بعبارة هيكل القنبلة.

روبرت فسك ذكر عبارات هيكل في مقال كتبه عنه بعنوان «رجل الشرق الأوسط الحكيم»، ثم تلاه بعنوان فرعي يقول «من خرشوف إلى السادات لم يسلم العديد من قادة العالم من تعليقات هيكل المسمومة». روبرت فسك ليس صحافيا مبتدئا أو هاويا، هو صحافي عجوز مثل هيكل ولن يضع كلاما على لسان «الأستاذ» إلا وقد راجعه معه. ما قاله هيكل في حديثه لفسك فيه استعلاء غير مبرر، وهو مسموم حقا، وإلا كيف نقرأ عبارته «إن مبارك لم يتعلم الدرس من اغتيال السادات».. عبارة فيها مضامين خطيرة سأترك تفسيرها لحكم القارئ.

هيكل النظام

* اختلط الأمر علينا، فلم نعد نعرف هل هيكل هو مجرد اسم لشخص أم هو هيكل للنظام برمته. هيكل يلف الأحداث الكبرى حول ذاته لدرجة لا يمر الضوء فيها بين شخصية هيكل وشخصية ناصر والسادات، بل شخصية مصر ذاتها. هيكل هو مصر، ومصر هي هيكل، في انصرافه انحسار للنيل وموت للزرع. لا ند له إلا مقام الرئاسة. ألم يقل هيكل في حواره الذي بثته قناة «الجزيرة» على حلقتين: «أنا الذي كتبت التوجه الاستراتيجي لأحمد إسماعيل».. أي أن هيكل لا مبارك ولا السادات هو الذي رسم تصور حرب أكتوبر، وهو صاحب النصر! تأمل «عنجهية» الأستاذ.. وهو يتحدث عن علاقته مع الرئيس مبارك، قائلا: «إن علاقتنا (علاقة هيكل مع الرئيس مبارك) في منتهى الانضباط». الانضباط هنا يعنى أن طرفي المعادلة لهما نفس القدرة على ضبط العلاقة. في مخيلة هيكل هو رجل بقامة رئيس مصر. «دعاني الرئيس لوحدي، وكان المفروض أن يكون اللقاء قصيرا. بدأ اللقاء في التاسعة صباحا وانتهى في الثانية بعد الظهر. وكان الرئيس يلغي ميعاد ورا ميعاد ورا ميعاد..». الإيحاء بالطبع أنه في وجود هيكل يلغي الرئيس كل شيء، يتوقف دولاب الدولة وتتوقف علاقات مصر الدولية.. أما أعضاء الحكومة المصرية من وزراء أو رؤساء الوزراء فهم أقل بكثير من أن يتحدث إليهم «الأستاذ»: «أنا لا أتكلم مع الوزراء أو رؤساء الوزراء».. «مين فؤاد محيي الدين ومين عاطف صدقي أو عاطف عبيد؟ أنا ما ضيعش وقتي مع هؤلاء، دول ما يملكوش حاجة».

تضخم هيكل حتى ظن أنه الوريث الشرعي لعبد الناصر، وأنه زعيم لنظام مواز للحكم في مصر. ومن خلال الزوبعة التي أثيرت مؤخرا في الصحافة المصرية بدا وكأن هناك تقسيما غير متفق عليه للسلطات، الحكومة لمبارك والصحافة لهيكل. وهيكل، حسب ادعائه يحفظ مقام الرئاسة، لكنه يغمز غمزته «المسمومة».. فهو يرى أن مبارك جاء إلى الرئاسة من عالم الطيران الذي يتعامل مع التكنولوجيا والأرقام، ولكنه لا يدرك التصرف مع الأشياء غير المنظورة مثل كلمة «الأمة» و«لتاريخ» و«الجماهير» واحتياجات الأمن القومي. هل هذا كلام معقول عن رجل أدار مصر، مجنبا إياها حروبا وكوارث لأكثر من ربع قرن؟.. ويدعي هيكل أن هناك فرقا بين رؤيته (هو) للأمن القومي التي تمثل «الجغرافيا والتاريخ»، وبين رؤية رجل عسكري مثل مبارك يحسب الأمن القومي بالأرقام والتكنولوجيا.. لو كان هناك أي نوع من حسن النية وحفظ مقام الرئاسة، لنوه هيكل إلى نقطة مهمة وهي أن شخصية الطيار الحربي هي شخصية حذرة متعقلة بحكم المهنة ولا تأخذ قراراتها إلا بعد التنسيق التام مع فريق العمل المكون من مطلق القذائف ومحدد الهدف، وهذا الحذر المسؤول هو الأقرب إلى سياسات حسني مبارك طيلة مدة حكمه.

السائح والترجمان

* عندما قرأت حوار روبرت فسك مع هيكل الذي علاه دخان السيجار الأزرق، تواردت إلى خاطري ثنائية «السائح والترجمان»، فهي حالة سائدة في مصر السياحية.. الترجمان رجل في الغالب فهلوي يعرف ما يستثير خيال السائح عن الشرق فيحدثه عن أمور وهمية عن تاريخ مصر الفرعونية وأحيانا الحديثة في خلط درامي عجيب، بينما ينفث السائح بدوره دخان سيجار رخيص، مدعيا أنه من سلالة عائلة وندسور.. خلط مزور مثل هذا كان يفوح من الحديث بين فسك وهيكل.

المفارقة أن يأتي هيكل على ذكر العالم الخيالي، فمن يقرأ ويستمع إلى هيكل يدرك أن الخيال قابع في عالمه القديم وليس في شرم الشيخ الحديثة، فما زال هيكل يتحدث عن تشرشل وديغول وكأنهما من الأحياء، كلام يروق لبعض الإنجليز المولعين بالشرق على غرار فسك.. أناس يلتقيهم المرء في لندن، لا يعجبهم الواقعيين منا، يريدوننا أن نكون شرقهم الخيالي. فسك لا يعجبه حسني مبارك كرئيس واقعي لمصر، فهو يريد لمصر قائدا ثوريا، ويريد لمصر أن تلقي بأبنائها في جحيم الحروب. فسك مغرم بعالم هيكل وبمعارك حسن نصر الله.. رغبة الدمار وذهنية الحريق هي الرابط بين هيكل وفسك ومدير مكتب تلفزيون «المنار» الذي فسر وبرر عبارات هيكل. ثلاثتهم لا يعجبهم طبعا أن مبارك جنب مصر ويلات الحروب، بالنسبة لهم المعارك في الهواء والهزائم التي أدت إلى احتلال الأرض أفضل بكثير من انتصار السادات وعودة الأرض وواقعية مبارك.

حديث الـ «فسك»

* حديث هيكل عن مقايضة تمت لمنح الجزر الإماراتية الثلاث لشاه إيران مقابل عروبة البحرين، ورعاية الملك الراحل فيصل لهذا الاتفاق، لا يمكن تسميته إلا بالحديث الإفك.. فكباحث أكاديمي في الشأن الخليجي أطالب هيكل بنشر أي مصدر أولي أو ثانوي يثبت هذا الاتفاق المزعوم، دع عنك أن احتلال الجزر جاء متأخرا كثيرا عن استقلال البحرين.. طرح هيكل القضية معتقدا بحكم غروره أن أحدا لن يبحث فيها، فهو يظن أن ما يقوله منزل وليس خاضعا للتدقيق والمراجعة، لكنه ليس طرحا بحكم الغرور فقط بل هو طرح مسموم على غرار تعليقاته، حسب وصف صديقه روبرت فسك. هيكل الذي يعيش في خيالات الماضي، ما زال مسكونا بالخلاف الذي كان قائما بين الملك فيصل والرئيس عبد الناصر. مات الرجلان وبقي هيكل يذكي معركة وهمية بين دولتين إقليميتين كبريين هما على اتفاق تام، شانّاً حملة إعلامية منظمة على السعودية، مستفيدا من المنبر «الشفوي» الذي منحته إياه قطر. فحسب هيكل أيضا فإن المبادرة العربية قدمت أصلا لاسترضاء الأميركيين. وبعد لقاء الأستاذ الحميم مع الكاتب الأميركي سيمور هيرش في القاهرة، خرج علينا هيرش في قناة «الجزيرة» ومن بعده هيكل بمقولات تصب كلها بأنه لو أن ناقة عرجت ساقها في بلاد الواق واق لكان الأمير بندر بن سلطان هو المسؤول عن ذلك. ونحمد الله أن هيكل كان مقربا من رئيس واحد، فلو جالس الرؤساء والزعماء الذين جالسهم الأمير بندر، وأبحر في غمار ذات الدبلوماسية واطلع على خفايا الأمور التي اطلع عليها الأمير، لكان «دوشنا» بقصص معظمها يدور حول ذاته، ولقال لنا المريدون إن الأستاذ هو «مستشار الأمن القومي العالمي».

في الحمام

يقول هيكل إن وزير الخارجية الأميركي الأسبق وليام روجرز جاءه فى مكتبه بالأهرام وطلب منه الحديث في أمر سري فذهبا معا إلى الحمام حتى لا يسمعهما أحد!.. يبدو الأمر وكأنه نكتة، فهل هناك من يصدق أن وزير خارجية أميركا يناقش شؤون السياسة الدولية في مكتب صحيفة في القاهرة ودعك من حكاية الحمام! لا نعرف الرواية الأميركية عما حدث في الحمام، كل ما لدينا هو ما قاله هيكل. العادة السرية ذاتها يمارسها هيكل في برقاش كما قال لمذيع الجزيرة، عندما قال بأنه يذهب إلى مزرعته في برقاش إذا ما أراد البحث في شأن سري لأن المكتب الأكاديمي الإسرائيلي موجود في الطابق الذي تحت شقته في القاهرة! الرد الذكي الوحيد الذي تفوه به المذيع أن قال له «السفارة في العمارة»، فضحك «الأستاذ» وضحكنا ولكل منا أسبابه في الضحك.

وختامه فسك

* ما قاله هيكل لقناة «الجزيرة» وما قاله في حديثه لروبرت فسك، فيهما كثير من الاضطراب والتشويش، كلما حاول أن يطفئ حريقا أشعل آخر.. هي ملامح اقتراب من النهايات تبشر أن «الحدوتة» الهيكلية قاربت نهايتها. عندما أعلن هيكل أنه سيعتزل الكتابة، كتبت يومها مقالا في هذه الصحيفة أزعج مريديه، ودعته فيه قائلا: «إلى جنة الخلد يا لومومبا»، هذا كان في عالم الكتابة.. أما وأن الأستاذ قد دخل عالم الشفويين، فسأودعه بعبارة شفوية مقتضبة قائلا: «وختامه فسـك»!