نداء لبنان

TT

لبنان مضغة من كبدي، وسوف أظل مشغولا بهموم أهله. وفي الأسبوع الماضي زرت لبنان بعد انقطاع طويل، وأمطرني معارفي وأصدقائي من خارج الوسط السياسي بسهام الويل والثبور وعظائم الأمور. قالوا: ساستنا تمترسوا في مواقف عقيمة، هذا مع احتضار الوطن بلا مبالاة، تحوم علينا ذكريات الحرب الأهلية كأنها مستقبلة لا ماضية، نخشى القبرصة، الوطن في كف عفريت، وهلم جرا.

لبنان عبقرية المكان: جمال الجغرافيا وعراقة التاريخ وتفرد دور التعايش مع التنوع، والحرية، والعطاء الديني والقومي، والصمود والتصدي للعدوان.

لا يمكن مع هذه العراقة والقيمة المعنوية أن يسوق قادة لبنان بلادهم للانتحار أو تصدق مناحات الهاوية.

قبل مغادرة بيروت التقيت بعض أهم الشخصيات السياسية الممسكة بمفاتيح الموقف، واستنتاجي أن الفرج ممكن. هنالك حقائق لبنانية لا يجوز إنكارها:

أولا: الأحزاب السياسية في لبنان قوى اجتماعية ودينية عميقة الجذور جمّرتها التجارب، ولا يمكن أن تذوب في غيرها ووصفها لبعضها بالعمالة لهذا وذاك إذا صلح للمراشقات لا يصلح للتحليل الجاد.

ثانيا: لبنان في لب القضية الفلسطينية يتأثر بعاصفة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، ويشارك في عاصفة الصراع العربي الإسرائيلي. إن لهذه العواصف حضورا في المشهد السياسي اللبناني.

ثالثا: إن للصراع العربي الإسرائيلي أصداءً دولية، هي التي حملت الصهيونية إلى فلسطين، وهي التي حملت القوات الأمريكية إلى العراق، وهي التي عمقت التوتر الأمريكي مع إيران، ولا شك أنها تلقي بظلالها على لبنان.

رابعا: الجيش الإسرائيلي الذي اطمأن بأنه لا يقهر وزاده يقينا بتفوقه انهيار الاتحاد السوفيتي، وتحالف بلاده مع اليمين الأمريكي المتحدي، صنف مقاومة حماس وحزب الله لإرادته إرهابا يداس عليه بالحذاء! لذلك عندما تعرض بعض جنوده للأسر اهتبلها فرصة لإبادة هؤلاء «الإرهابيين»، ولكنه فوجئ بصمود لم يكن في حسبانه وهزيمة نكراء لأهدافه تركت في نفسه غصة ورغبة في الانتقام لا سيما من حزب الله، وإزالة هذا النمط من فاعلية المقاومة الشعبية لأن في وجودها خطرا على بقاء دولته.. هذه الخطة الثأرية وضعت لبنان في واجهة المقاومة لإسرائيل بصورة تكلف لبنان ثمنا يأبى دفعه كثير من اللبنانيين الذين يرون ألا يدفع لبنان ثمنا قوميا أكبر من بقية الدول المجاورة لإسرائيل.

خامسا: الاغتيالات السياسية نهج مستوطن في المنطقة، وقد طالت كثيرا من زعماء البلاد: كرامي ـ جنبلاط ـ الجميل وغيرهم. لكن الظروف التي صحبت اغتيال الحريري أحدثت انفعالا تجاوز أصداء الاغتيالات الأخرى، وأدى لمطلب وطني ودولي مشروع بضرورة إجراء تحقيق دولي ومحاكمة دولية للجناة. لا يجوز رفض هذا الطلب ووضع حد لهذا النزف الهمجي. محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، مكونتان بصورة دقيقة تعلي شأن العدالة وتحول دون الاستغلال السياسي. المحكمة اللبنانية الدولية بالصورة المقترحة حاليا انطوت على نصوص فضفاضة تسمح باستغلالها سياسيا. لذلك يرجى تكوين لجنة قانونية يختار طرفا النزاع عضوين، وهذان يختاران ثالثا ليقوموا في فترة شهرين بضبط أوامر تكوينها.

سادسا: التنوع السياسي والطائفي والتوازن الذي أوجبه الدستور لا يسمح بأن يملي أي طرف لبناني موقفه على الآخرين. فلا مجال لدولة تتسمى بأحد الأديان بل ينعم الجميع بالحرية الدينية ويلتزمون المساواة في حقوق المواطنة. وبنفس المنطق لا يمكن إصدار قرار دولي يقبله فريق ويرفضه فريق آخر. قال نائب وزير خارجية روسيا: «إن لروسيا تحفظات على إنشاء محكمة ذات طابع دولي، تحت البند السابع في غياب توافق لبناني». المؤسسات الدستورية، والشارع السياسي، والشعب بكل فصائله منقسم انقساما عريضا تجاوز الاصطفاف الطائفي للمناصفة بين موقفين! وآخر دليل على ذلك أن انتخابات المهندسين اللبنانيين الأخيرة (14/4/2007) جرت بين 10 آلاف مهندس انقسموا تقريبا مناصفة بين الموالاة والمعارضة.. في هذه الظروف الانفراد برأي دون الآخر استدراج لفتنة أهلية.

الشعب اللبناني خاض الحرب الأهلية وويلاتها ونتائجها العبثية لذلك سوف يظل يتجنبها، يدل على ذلك مثلا حادثة اغتيال الشابين المؤسفة الأسبوع الماضي ـ رحمهما الله ـ فقد أظهرت عزيمة الشعب اللبناني لتجنب الاقتتال والتطلع للوفاق الوطني.

سابعا: مجلس النواب هو الذخيرة الدستورية الباقية، وهو بصورته الحالية منقسم بين المعارضة والموالاة. المطلوب مع هذه الحالة الاتفاق على برنامج ترميم الاقتصاد، والربط بين الاستعداد للمقاومة وخطى التحرير، وتكوين المحكمة الدولية، والالتزام بالتعددية الدينية، وحقوق المواطنة المتساوية. برنامج تلتزم به حكومة وحدة وطنية يعكس تكوينها النسب النيابية في البرلمان على أن تكون رئاسة الوزارة للموالاة ورئاسة المجلس للمعارضة ـ كما هي الآن. أما رئيس الجمهورية القادم فيرجى الاتفاق على ماروني وفاقي يرمز لوحدة البلاد بشخصه ونهجه.

في محاضرتي عشية مغادرتي لبيروت، وجهت نداء لأطراف النزاع. وأقول: من أصدقائي ومعارفي بنادي مدريد 66 رأس دولة وحكومة سابقين بينهم أسماء ذات وزن معنوي عالمي، ومن زملائي في مجلس الدبلوماسية الوقائية شخصيات تمثل العالم أجمع، وسوف أخاطب هؤلاء جميعا لتكوين جماعة ذات وزن معنوي عالمي ثقيل لتلبية نداء لبنان. فلا أحد يجوز له بوازع الدين، ونوازع الوطن، وضمير الإنسانية أن يقف متفرجا إزاء محنة شعب عظيم خذلته ظروفه.

المخرج الوفاقي العادل في لبنان ممكن. وما يقوله قادة النزاع مباشرة أفضل وأكثر معقولية مما يروى عنهم إعلاميا. ولا أخال أية قيادة لبنانية تستطيع مخاطبة هذا الوزن الدولي الثقيل بمفردات لا عقلانية، أما المفردات العقلانية فلا ينكرها أحد.

ومن حسن الطالع أن المناخ الدولي نفسه مرشح للتخلي عن الأجندات الأحادية. فسياسة الإدارة الأمريكية إلى أفول، وتواجه ضغطا شديدا لتعديل مسارها، والإدارة الفرنسية أفلت وسوف تحل محلها إدارة يرجى أن تقرأ ملف الشرق الأوسط بعيون فاحصة.

وفي الطريق لهذا الأمل المنشود لحوار مؤسس على إعلان مبادئ يتضمن النقاط الواردة هنا، يرجى أن توافق أطراف النزاع في لبنان على خطوتين متزامنتين لبناء الثقة هما: إعلان أن اتفاقية المحكمة الدولية تتم عن طريق التراضي الوطني وعبر الدستور والأعراف اللبنانية، وإعلان رفع الاعتصام الحالي في وسط بيروت لتنفيس الاحتقان.