هل ننسى زياد الغندور كما نسينا محمد الدرة ؟

TT

أما زلتم تتذكرون محمد الدرة؟

محمد .. ذلك الطفل البريء الذي مزقت جسده الطري رصاصات الهمجية والحقد الإسرائيلي بينما هو يحاول الاحتماء عبثاً في أحضان أبيه ... أتتذكرونه ... أم نسيتم إعدام طفولته في يوم 30 سبتمبر / أيلول عام 2000؟

اليوم بعد نحو سبع سنوات قصفت رصاصات همجية وحاقدة أيضاً طفولة زياد الغندور في مكان ما، مظلم حتماً، من غابة مخيفة مجردة من الإنسانية ومجردة من الوعي ... اسمها لبنان.

وتكرّر مع فاجعة زياد ما حصل مع فاجعة محمد ..

كلام كثير، ودمع غزير، واستنكارات مدويّة، ولكن باقية كما هي الذهنية المريضة التي ترفض ربط الأحداث بعضها ببعض، وتأبى الاتعاظ من الكوارث، وتهرب من تحملّ المسؤولية (الأخلاقية) على الأقل، وتجهل أو تتجاهل البديل العملي العقلاني والأخلاقي لمضيّنا نحو الهاوية تحت قرع الطبول ونفخ المزامير ..

عندما استشهد محمد هبت الجماهير مطالبة بالتحرك وعدم الاكتفاء بالكلام، لكن مع ذلك انزلق الشعب الفلسطيني الجريح، المكبل بسلاسل الاحتلال، بالرغم منه إلى الاقتتال الداخلي مع أن الكل كان يردد دائماً ... «الفتنة الداخلية خط أحمر».

في لبنان، قبل أيام، يوم وداع زياد الغندور وسميّه الشهيد الثاني الشاب زياد قبلان، أيضاً بادر العقلاء القلائل إلى لجم الفتنة المحدقة بالبلد، وحاولوا جهدهم خلال تلك الساعات العصيبة احتواء الكارثة بالكلام الطيب والدعوات للتبصر وتغليب الحكمة والضمير.

ولكن هنا أيضاً لا ضمانة بأن المجرمين سيُمنعون من تحقيق مآربهم بعد حين. فالمشروع مستمر ... والجو مؤات والساحة المحتقنة بالوساوس والأحقاد على حالها، والكلام الصادر باستحياء من أكثر من اتجاه ينم عن ذلك.

من البديهي، أن لا خطوات عملية باتجاه تخفيف الاحتقان توصلاً إلى صيغة تعايش سياسي. والحصيلة التي عاد بها من دمشق أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون، ومن بيروت مساعده للشؤون القانوية نيكولا ميشال، لا تبشر بالكثير.

ومع أن الكلام المتبادل كان جميلاً بين بعض رموز الاستقطاب السياسي الحاد في يوم الوداع الأليم لـ«الزيادين»، فعلى المستوى العملي لم يتغير شيء.

فالموالاة أو الأكثرية البرلمانية ما زالت صامدة حرصاً على مشروع «الدولة»، والمعارضة ما زالت متحمسة للتغيير خدمة لمشروعي «المقاومة» و«الممانعة». وبين هذين العنوانين الكبيرين ينزلق لبنان كله نحو الفتنة الأهلية على وقع التحريض والتخوين وتغييب هوية المجرمين.

أحد الأكاديميين العرب المقيمين في أوروبا قال خلال حديث إعلامي أخيراً لدى سؤاله عن الوضع اللبناني «إن الحروب الأهلية لا تُعلن .. بل ينزلق إليها أطرافها انزلاقاً وفي أحيان كثيرة بالرغم منهم».

وهذا الكلام صحيح، والدليل الأكثر سطوعاً هو الحرب الأهلية العراقية التي يقول الجميع إنهم لا يريدونها لكنهم كلهم، بلا استثناء تقريباً، يغذون نارها يومياً بجثث الأبرياء.

وبالأمس كنت مع شاب لبناني تقدمي عاد للتو من بيروت، ودعاني إلى الغداء ليخبرني عن انطباعاته خلال تلك الزيارة. ومما قاله لي بألم أن السقف السياسي عند بعض رفاقه متدنٍ عن الثوابت التي طالما دعوا إليها. وأعطاني مثلاً مواقف رجل سياسة محترف يحترمه ويحبه، لكنه فوجئ هذه المرة بأنه ما عاد يدعو إلى «الدولة العلمانية» بل يكتفي بـ«الدولة المدنية». فأجبته بشيء من الواقعية والكثير من الأسى بأن مطلبي الخاص غدا أقل حتى من هذا ... فأنا فقط مع «الدولة».

«الدولة» غير المشروطة.

فأي دولة ـ كما كان يقول أحد أساتذتي ـ تظل أفضل من «اللا دولة».

ولبنان والعراق وفلسطين، وأزعم أن دولاً عربية أخرى أيضاً، تمر حالياً بحالة «اللا دولة».

ثم انتقلنا بالحديث إلى سورية والانتخابات البرلمانية الأخيرة، وهي انتخابات بالكاد فاجأت نتائجها الرأي العام العالمي، وجاءت ـ كما أظن ـ متوافقة مع توقعات الرأي العام السوري والعربي. وهنا أبدى الصديق ألمه لمفارقة تزامن هذه الانتخابات مع الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية، وكيف أن نسبة التأييد الشعبي للرئيس المقبل (أو الرئيسة المقبلة) للجمهورية الفرنسية وصلت في أقصاها إلى 30% فقط برغم البحبوحة النسبية لفرنسا بالمقارنة مع سورية، بينما التفويض الشعبي للحكم في دمشق شبه مطلق.

ورأى أن مما يثير الاستغراب حقاً عجز أنظمتنا «الديمقراطية» في العالم العربي عن التوصل إلى «الوصفة السحرية» للديمقراطية المؤسساتية التمثيلية ... بينما بلغتها دول ـ ربما كنا في يوم من الأيام ـ نفوقها حضارة وثراء كدول أميركا اللاتينية وشرق وجنوب آسيا، بل حتى دول أقاصي إفريقيا.

قال ـ ووافقته طبعاً ـ غريب كيف نتصور، في مطلع القرن الـ21، أن تثبيت «أغلبية دائمة» يتقدمها «حزب قائد» محجوز له مسبقاً أكثر من 50% من مقاعد البرلمان يمكن أن ينطبق عليه مسمى «ديمقراطية». والأغرب أن نتوقع من حالة كهذه محاسبة على أداء، أو استقلالية قضاء وإعلام، او التصدّي لتجاوزات عندما لا تكون هناك معارضة يكفلها ويحميها الدستور ولو كانت تشكل أقلية شعبية ضئيلة.

وبما أن الشيء بالشيء يذكر، وطالما نحن نتكلم في استقلالية القضاء، تذكّرت أمامه كيف كرّرت دمشق أخيراً في سياق موقفها من المحكمة الدولية، أنها تصر على مثول من تثبت إدانته من المواطنين السوريين، إذا ثبتت، أمام القضاء السوري. وهنا لفتني الصديق إلى أن أحداً في دمشق لم يرفع هذه المرة دعوى قضائية ضد المواطن السوري الأميركي ابراهيم سليمان الذي زار أخيراً الكنيست الإسرائيلي وتفاوض مع القادة الإسرائيليين على صفقة سلام، مع أن أحد المحامين السوريين رفع قبل سنة دعوى بحق أحد الساسة اللبنانيين بحجة «تحريضه الولايات المتحدة على احتلال سورية»!

صحيح، لماذا؟

ثم كيف يُدعى سياسي وأكاديمي لبناني كان من أبطال توقيع «اتفاق 17 أيار/ مايو» مع إسرائيل عام 1983، في وقت سابق من هذا الشهر، إلى دمشق للمشاركة بندوة انتخابية لأحد النواب «الإسلاميين» الناشطين، مع أن هذا النائب اعتاد مهاجمة الحكومة اللبنانية ومناصريها... واتهامهم بالعمالة لأميركا وإسرائيل!

أنا اعتقد، بكل صراحة، أننا إذا ما استمرينا في لعبة التكاذب ... لن يعلمنا تراكم الشهداء والضحايا الأبرياء المنسيين شيئاً؟