طائفية ولا «مهاتير» لها!

TT

كان الهاجس الطائفي وكابوس انفلات عقد الوحدة الوطنية في منطقتنا الملتهبة، هما اللذين جعلاني أتشوق للقاء الشخصية التاريخية الماليزية العالمية الدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق والرمز الآسيوي الإسلامي الأعجوبة، وذلك في زيارتي الأسبوع المنصرم لكوالالمبور عرين النمر الآسيوي النشط.

تحدثت مع الدكتور مهاتير حول الوصفة الماليزية في التعامل مع الأقليات العرقية والدينية وحاجة دول العالم الإسلامي إلى هذا «الترياق» الماليزي العجيب، والذي بالتأكيد يمثل علاجا ناجعا لكثير من الأوجاع الطائفية التي أصابت مقتلا في منطقتنا المشتعلة بنيران الطائفية، كما في العراق أو كما في دول ظهرت فيها أعراض المرض الطائفي وهي الآن على صفيح مذهبي ساخن تنتظر دورها ما لم تنزع فتيل فتنتها كما فعل الماليزيون بقيادة حكيمهم الرمز مهاتير. اللافت في تجربة مهاتير أنه وهو الذي صهر هذه الأقليات في بوتقة واحدة ونزع فتيل صراعها الطائفي في بلد متعدد الأعراق والديانات والطوائف (المالايو 58% ، والصينيون 24%، والهنود 7% )، هو ذاته من أكبر الداعين بقوة إلى مناصرة عرقه المالاوي؛ وهم السكان ذوو الأصول المحلية، ففي عام 1970 ألف الدكتور مهاتير محمد كتابا عنوانه «معضلة المالايو» انتقد فيه بشدة شعب المالايو واتهمه بالكسل، والرضا بأن تظل بلاده دولة زراعية متخلفة دون محاولة تطويرها. وقرر الحزب الحاكم في ماليزيا، والذي يحمل اسم منظمة المالايو القومية المتحدة، منع الكتاب من التداول نظرا للآراء العنيفة التي تضمنها، وأصبح مهاتير بعدها في نظر قادة الحزب مجرد شاب متعصب، إلا أن الحقيقة أن الحزب لم يفقه فلسفة مهاتير ورؤيته إلا متأخرا.

هذه الفلسفة تقوم من خلال تفعيل غالبية المجتمع (الأغلبية المالاوية المهمشة) وزيادة انتاجهم كردة فعل ضد سيطرة العرق الصيني على مقاليد الصناعة والاقتصاد الماليزي، ولهذا أفرد مهاتير حيزاً في سياسته التعليمية والاقتصادية لتعليم المالاويين وتدريبهم على التكنولوجيا الحديثة وتعلم اللغة الانجليزية، للتواصل مع العالم معرفياً وثقافياً، وأرسل البعثات التعليمية للدول الغربية ونثر طلابه هناك بعشرات الآلاف واضعا بذلك البنية التحتية البشرية التي ستساعده في تنفيذ رؤيته الحضارية، وقد شهدت بنفسي الحقبة الذهبية لهذه البعثات عندما كنت طالبا مبتعثا في ولاية كاليفورنيا الأمريكية في الثمانينات؛ فقد كان الطلبة الماليزيون (الملاويون) هم الأكثر عددا بين الطلبة المبتعثين من الدول الإسلامية الأخرى، وبهذا نجح مهاتير بالتالي في إدماج المالايو في سوق العمل والذي كان أحد أسباب نجاح مشروعه التنموي، ولم يكن مهاتير بهذه الفلسفة عنصريا ولا متعصبا، والدليل أن التحالف الحاكم الذي كان يحكمه مهاتير يضم 14 حزبا يمثل مختلف المجموعات العرقية.

باختصار فالدكتور مهاتير محمد لا يؤمن بالمساواة المطلقة، بل بعدالة التوزيع، ويرى أن التفاوت من سنن الطبيعة، وأن عدالة التوزيع هي من أهم أسباب الاستقرار السياسي، وقد أثبتت الأيام صدق فلسفته وعمق رؤيته. مهاتير محمد قدم لعالمنا الإسلامي الذي تمزق أجزاء منه الصراعات الطائفية والعرقية، معادلة معقدة لا أعرف زعيما غيره حققها، هذا الرجل الأعجوبة انتشل بني قومه (العرق الملاوي المسلم) من وهدة التخلف بيد، وأطلق الحريات المنضبطة لبقية الأعراق والقوميات والأقليات الدينية بيده الأخرى، أثبت مهاتير أن الذي يهدف إلى رفعة طائفته أو عرقه لا يمر بالضرورة عبر بوابة الدعس بالأقدام على الأجناس والطوائف الأخرى، ومن يتصور أن القوة والجبروت وحكم الناس بالحديد والنار هو الذي سيروض هذه الأقليات فليأخذ العبرة من صدام، فالاستقرار الطائفي في عهده كان رمادا، لكن كان تحت الرماد وميض نار طائفية متقدة، وهي التي يصطلي بلهيبها العراق هذه الأيام. لو أجاز علماؤنا عملية الاستنساخ البشري فمهاتير أول من يجب أن يستنسخ ويصدر إلى المناطق المتخلفة في عالمنا العربي.

[email protected]