الافتتان بالعقل.. لا يبني الأوطان سوى رجال لديهم الشعور المرضي بكرامتهم

TT

التقيت الاستاذ فؤاد بطرس مرتين. الاولى عام 1974 وقد سألته خلال المحادثة عما يقرأ هذه الايام، فقال انه منكب على دراسة ظاهرة النفط والطاقة. ثم سأل ان كنت اقترح شيئا. وأجبت ان الاحرى بنا كلبنانيين ان نقرأ الكتب التي صدرت عن اسبانيا عشية الحرب الاهلية، لأن المشابهات هائلة ومخيفة: الناس منقسمة حول طبيعة النظام، والغرباء العقائديون يقاتلون كل الى جانب فريقه والضباط أكثر عدداً من الجنود والمنطقة (او اوروبا) برمتها في حالة حرب.

المرة الثانية في لقاء فؤاد بطرس، كانت يوم السبت الماضي، اذ استضافه، محدَّثا، «منتدى عصبة العشرة». والانطباع بعد 27 عاماً، كانطباع الريشة عن الصخرة. قلما يتغير الكبار، لكنهم يزدادون افتتاناً بالعقل وتمسكاً بالروية وتأملاً في دقة الميزان. ويشكل فؤاد بطرس، قاضياً شاباً او وزيراً، او نائباً او خاسراً المقاعد الصغيرة، يشكل في طبعه وطبيعته والممارسة نقيضاً للعامة وأهوائها وانفصاماتها وميولها الانتحارية. وربما بسبب انتمائه الى فئة اقلية، حمته نفسه من الجرف وظل يرى الاشياء من فوق البرج. وليست هذه بالتأكيد صفة عامة، فلا تعميم في شأن عام، لكنها صفة النخب التي تولد وتعيش وتكهل، متعالية على الصغائر التي تحاط بها وتظل معلقة متعلقة برفعة المهام التي تناط بها.

وفي هذا الترفع، او هذا التكدس من الترفع، تصير للسياسي هوية واحدة لا تعترف بهويات التميز والتفرق والنسب، هي الهوية الوطنية العليا. فلا يعود فؤاد بطرس، في مهمة او خارج مهمة، ممثلاً لأحد او لجماعة وانما هو ممثل لمجموع. وأكثر من ذلك، يصير الوسيط في هذه الحال ممثلاً للفريقين، لا وسيطا بينهما.

عندما كان فؤاد بطرس يتحدث صباح السبت الماضي، كنت اسائل نفسي، ماذا حدث لهذه الطبقة من الرجال في السياسة اللبنانية؟ وهل يظل من الممكن او من المؤمل، بناء دولة او وطن او مجتمع، عندما لا تعود سمة العمل السياسي والوطني، هاجس الافتتان بالعقل كمرجع اخير وسبيل وحيد الى بناء الوطن؟ اي ميزان يمكن ان نعتمد، في بلد متعدد، مختلف، متنوع، سوى ميزان العقل؟ اي دستور يمكن ان يقوم وأي مستقبل يمكن ان نبني واي حاضر يمكن ان نتجاوز، اذا لم نقبل جميعاً حكمة العقل ونعمة التعقل؟

اننا لم نكف، منذ اربعمائة عام، عن محاولة تغيير بعضنا البعض، بدل ان نجرب الحل الاسهل والابقى، وهو ان نقبل بعضنا البعض. لذلك ألغت كل قوة ما دونها قوة، في حين يشق العقل الطريق الى الآخر ويضيء المصابيح للمجموع. وما عدا ذلك خراب، سواء بالقتل او بالانتحار. ولذلك يقتضى على الدوام، وخصوصاً في حالات اليأس الجماهيري، يُقتضى وجود النُخب المضحية، والتي تميل الجماهير عادة الى اضطهادها والسخرية منها والتقليل من اهميتها وفعاليتها، لأن الجماهير لا تفكر الا بالوطأة ولا تعمل الا بها، وترى في العقلاء اعداء لطوحاتها. هذا ما حدث لفؤاد بطرس خلال الحرب اللبنانية وهذا ما حدث لريمون اده. وهذا ما حدث لفيليب تقلا، وهذا ما حدث لتقي الدين الصلح، وتلك الكوكبة التي اذ تسقط تهوي كالنيازك فنعرف بغياب الضوء لكننا لا نعرف في اي ارض تضيع. ثمة طبقة من الناس، فئة من السياسيين، ندرة من الرجال، ترى في العمل السياسي شأناً وطنياً، وتمارس العمل الوطني على انه امتحان يومي، ليس محصولاً بل امتحاناً، ليس موسماً بل زرعاً، لذلك لا تصنَّف ولا تقع في خانات صغيرة. واحياناً لا تقع ايضاً في خانات كبرى كذلك. فمن طبعها انها تتحاشى الضوء لكثرة افتتانها بالعقل ولكثرة خوفها على كرامتها.

كانت انديرا غاندي تقول، وهي في قمة السلطة التي تحدرت اليها من البانديت نهرو، كانت تقول ما معناه: المصنفات لا تهمني. يهمني فقط ان اعثر على حلول لبعض المسائل، ان اصل الى حيث انا ذاهبة. هذا كل شيء! هناك فكر سياسي يقوم على الفكر. الاحتكام الى العقل حصانة الحكم. التأمل في الذات تأمل في الآخر. التأمل في الذات وفي الآخر سعي الى العدل. والعدل المطلق ليس حالة بشرية ولا بلوغاً بشرياً، لكن شيئاً منه، اي شيء منه، يعطي الاوطان فرصة البقاء والرجال فرصة الكرامة.

لا يبني الاوطان سوى رجال لديهم الشعور المرضي بكرامتهم. المريض بكرامته متعاف بنزاهته، صحيح في آدابه، حريص في سلوكه عادل في طرائقه. ولا حل وسطياً في توصيف الرجل الوطني. لا يمكن ان يكون معتلاً في صفة وكاملاً في الصفات. فالكينونة، كينونة اي شيء، امر قاطع. تكون او لا تكون، تلك هي المسألة. ليس هناك نصف كينونة ونصف صيرورة. لا تطلق على النصف صفة الكل في اي مكان، في اي حقل.

حكماء؟ لا. عقلاء واوادم. فالعاقل ليس الذكي ولا الشاطر. العاقل هو العادل، وهو الذي لا يفرط بكرامته ولا بكرامة سواه. وهو الذي يعطي الجماهير من ذاته ومن افتتانه ولا يصاب بأعراضها. وكان اللبنانيون يأخذون على شارل حلو انه يقلَّب الاشياء «اكثر من اللزوم». اي انه كان يفكر عنهم كما ينبغي، ويزن الاشياء كما يُفتَرض، ويحمي العَلم من الاحتراق كما لو كان يحمي جفنيه العريضين.

لا يقول فؤاد بطرس الكثير عندما تلتقيه. يترك الاشياء تقول عنه. ويجعل حوله، في عفوية مطلقة، صورة سياسي تتحلق حوله التجارب كالطيور. ولا يشبع معرفة ولا يضيق حرصاً ولا تعرف له شيئاً مبيَّتاً. ويبدو لكثرة ذلك غامضاً احياناً او خائفاً احياناً او هارباً متهرباً احياناً. وهي جميعاً صفات العقل.