التجربة السويسرية !

TT

شاءت الظروف أن التقيت بعدد من أعضاء الوفد العراقي الذي صاحب زيارة رئيس الوزراء نوري المالكي إلى القاهرة مؤخرا؛ وكان لافتا للنظر أن الوفد المنتمي إلى اتجاهات سياسية وطائفية شتى يحمل وجهة نظر متفائلة عن الحياة والمستقبل في العراق خلافا لما هو شائع في الإعلام العربي والعالمي عامة. وربما كان ذلك مفهوما ومبررا بأن جمع التأييد للعراق ونظامه السياسي الجديد من الدول العربية ـ وبقية دول العالم في الحقيقة ـ لن يحدث ما لم يكن هناك اعتقاد جازم بأن هذا النظام سوف يكون له مستقبل من نوع أو آخر. وكان المستقبل الذي يتحدث عنه العراقيون هو دولة ديمقراطية فيدرالية موحدة في كيان يحترم الأعراق والطوائف، ويقيم من التوازنات ما يبقي كلا منها مشاركا في الكعكة القومية، ومن الأساليب والأدوات ما يبقي الدولة متحدة وموحدة. أما كل ما يخالف ذلك في الواقع الآن فهو راجع للظروف الاستثنائية التى يولدها الإرهاب الأصولي الذى يقع على عاتقه جريمة تدمير العراق والتفرقة بين طوائفه واستدعاء الدول الأخرى ـ خاصة إيران ـ للتدخل في شؤونه.

وبغض النظر عن مدى صحة هذا التقييم من عدمه، فقد كان لافتا للنظر أيضا بشدة أنه تواردت على ألسنة الساسة الرسميين العراقيين وجهة نظر تقول إن «النموذج السويسري» هو النموذج الذي يطمع العراقيون في الوصول إليه. وعند الاستماع إلى ذلك تداعى إلى الذهن أن عددا من المثقفين المصريين ـ وفي مقدمتهم توفيق الحكيم ـ طالبوا في أعقاب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، و«عودة الوعي» بحقائق السياسة المصرية في ظل هزيمة يونيو 1967، بأن تتبع مصر التجربة السويسرية في الحياد داخل محيطها الإقليمي والعالمي. وهذه المرة فإن الحديث العراقي كان أكثر تعقيدا وتركيبا من الحديث المصري السابق، فهو لا يشمل فقط العلاقات الدولية للدولة، وإنما أيضا نظامها السياسي القائم على شبكة معقدة من الديمقراطية المباشرة والبرلمانية والفيدرالية وحتى الكونفيدرالية. ومع ذلك فإن ما جمع المصري مع العراقي كان نوعا من الثورة على الدولة الطاغية على مواطنيها ـ أو رعاياها في الحقيقة ـ والساعية بقوة لكي تلعب دورا إقليميا، وربما دوليا، هو أكبر بكثير من قدراتها وهو ما يقودها إلى كوارث شتى من ناحية، والاستبداد بشعبها تحت راية المصالح الوطنية العليا من ناحية أخرى.

والحقيقة أن «التجربة السويسرية» لها أكثر من وجه، فهي دولة قديمة عرفت أول أشكالها عام 1291 في أحضان جبال الألب عندما تجمعت ثلاثة كانتونات لتكوين «الكونفيدرالية السويسرية»، وهذه أخذت في الامتداد والانكماش عبر التاريخ حتى أصبحت 26 كانتونا منهم ستة تعرف بأنصاف الكانتونات، وهؤلاء تحولوا إلى النظام الفيدرالي اعتبارا من عام 1848، وهذه هي الدولة التي نعرفها الآن وعدد سكانها 7.5 مليون نسمة. وسويسرا أيضا دولة تعددية مركبة القوميات، فهي من ناحية لديها أربع لغات: الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانية، وهي من ناحية أخرى تقوم على نظام فيدرالي يعطي للكانتونات كل السلطات التي لا يتم النص عليها قطعيا في الدستور، وتتمثل هذه الكانتونات في المؤسسات الفيدرالية من خلال مجلس الولايات المكون من 46 عضوا ـ القائم على صوتين لكل كانتون وصوت واحد لأنصاف الكانتونات الست ـ والمجلس الوطني المشكل من 200 عضو يتم انتخابهم من خلال القائمة النسبية. وفي نفس الوقت فإن سويسرا تعتبر دولة ديمقراطية مباشرة، فلكل مواطن الحق في تعديل القوانين التي تقرها «الجمعية الوطنية المتحدة» ـ أي مجلس الولايات والمجلس الوطني ـ من خلال استفتاء عام إذا ما تمكن المواطن من الحصول على 50 ألف توقيع خلال 100 يوم، بل وأكثر من ذلك فإن المواطن يستطيع تعديل الدستور من خلال الاستفتاء العام إذا ما نجح في جمع 100 ألف توقيع خلال 18 شهرا.

وبقي بعد ذلك وجهان شائعان في التجربة السويسرية أولهما ما يعرف بالحياد السويسري حيث نجحت سويسرا رغم ضغوط كثيرة في الوقوف على الحياد خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهي تجربة أهلتها لكي تكون محط المنظمات العالمية. والثاني نجاح التجربة السويسرية ليس فقط في التعامل مع مجتمع متعدد الأعراق واللغات والملل، بل أيضا في تحقيق نجاح اقتصادي يضرب به الأمثال في العالم حتى بلغ متوسط دخل الفرد في سويسرا قرابة 50 ألف دولار.

وكان هذان الوجهان الأخيران على الأرجح هما اللذان جذبا العرب إلى «التجربة السويسرية»، على الأقل في الحالتين المصرية والعراقية. فسواء كان الأمر في القاهرة بعد وفاة عبد الناصر، أو في بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين، فقد كان هناك نوعان من الإعياء: أولهما ما بدا من زيادة قدرة وسطوة الدولة إلى درجات غير مسبوقة في التاريخ، فرغم ما هو معروف من سطوة الدولة المركزية في مصر إلا أن قدرات هذه الدولة لم تكن نافذة ومسيطرة ومهيمنة بالإعلام والأمن والسياسة على كافة أطراف الدولة ريفا وحضرا كما حدث خلال الفترة الناصرية. وثانيهما ما بدا وأن الدولة قد ذهبت لأبعد مما هو ممكن في محاولة النفاذ للنظام الإقليمي ولعب دور دولي يتصادم مع الإرادات الدولية العظمى لكتل ودول لديها من القدرات الاقتصادية والتكنولوجية والمادية في العموم ما كان كافيا في النهاية لكسر الدولة وهزيمتها. وبشكل ما فقد كان الإعياء في الحالتين ناجما عن علاقات تبادلية، فقد كانت الدولة الاستبدادية تؤدي إلى نقص المناعة في الدولة، وكانت الدولة ذات الدور الإقليمي نزيفا مستمرا على موارد وطنية محدودة بالفعل.

كل ذلك جعل التجربة السويسرية مغرية لمن أعيتهم الدولة المستبدة، ومن أجهدهم التورط الخارجي سواء في مصر أو في العراق. ولكن الفكرة في الحالتين لم تكن مغرية لبقية الناس سواء كان الأمر في القاهرة أو في بغداد لأن التجربة تؤخذ ليس بنتائجها ـ الحياد والتعددية والرخاء ـ وإنما بمكوناتها التي قامت على ثقافة تقوم على الديمقراطية والتسامح، وصهرتها حروب دينية طاحنة قبل عام 1648، ثم روعتها حروب إقليمية وعالمية طوال القرون من الثامن عشر حتى العشرين. وربما كان الأهم من ذلك كله أن التطور الاقتصادي والاجتماعي قد جعل وحدة السوق أهم كثيرا من وحدة السياسة، فالبنوك وأسواق المال وحالة العملة وشبكات الإنتاج والاستهلاك والاستيراد والتصدير هي التي تخلق الأمم وليس نظامها السياسي. كما أن كفاءة الإدارة للموارد العامة هي التي جعلت الوحدات المحلية والقريبة من المواطنين هي التي تكفل تفويض القرار للمستويات الدنيا من الإدارة، وهو ما يعني تحملها للمسؤولية ورفع الوصاية عنها من خلال أجهزة وزعامات قومية. وفي الحالة السويسرية فإن رئيس الجمهورية يتم تجديده كل عام، والوزارة أو المجلس الاتحادي، لا يزيد عدد أعضائها عن سبعة.

وهكذا فإن القضية بالنسبة للعرب الذين يعجبون بالنموذج السويسري هي مفهوم الدولة وليس أشكال سلوكها، ومنذ قيام الدولة العربية المستقلة فإن الصيغة المركزية الاندماجية كانت هي النموذج الذي يسعون إليه. وكان التصور هو أن ذلك هو السبيل الوحيد لحماية البلاد من التفكك والانقسام، ولكن ما حدث فعلا هو أن المركزية قادت إلى توليد مرارات تاريخية وعرقية لا تلبث أن تظهر في أقسى أشكال العنف ساعة تعرض الدولة للمحنة.