.. وأشعل لبنان في الليل شموسه

TT

كل من يعرف لبنان واللبنانيين لا بد أن يدهشه أن ذلك الشعب المهذب الراقي، الذي يعيش في ذلك البلد المتحضر الأنيق، قد اصطبغ تاريخه ذات يوم بحرب أهلية قتل فيها «قابيل» أخاه «هابيل».. فهؤلاء اللبنانيون الذين يتنفسون شعر «جبران»، ويسبحون في نهر «فيروز»، ويشدون خيام قلوبهم بغصون الياسمين، لا يمكن أن يكونوا إلا دعاة حياة.

واليوم: مهما تناءى اللبنانيون في وطنهم تظل المسافات بينهم وهما، ومهما تراشق «جريرهم» مع «فرزدقهم» يبقى لبنان المبتدأ والقافية. ففداحة حرب الأمس في الذاكرة تمنعها أن تتناسل اليوم أشباحا تسرق فرح الصباحات الآتية.. فالسواعد التي تعودت أن تسقي زهور التفاح لن تألف أن تقطف ثمار الأرواح.

كان صاحبي «غصن» يتكئ على جذع «صنوبرة» عتيقة، وبيروت تلوح من بين دخان سيجارته لؤلؤة حين قال:

ـ «من هنا عبر الموت ذات يوم في حاشية من توابع الألم.. من هنا مرت قوافل الراحلين إلى نهاياتها، لنتعلم أن للحرب أحزانها، وللحياة أثمانها.. فالبندقية في الداخل لها فتحة واحدة تتجه إلى صدرك.. وتكون أنت القاتل، والمقتول، والمنكسر، والمهزوم.. وطائر «الفينيق» الذي انبثق من بين ذرات الرماد ـ هذه المرة ـ لن يعود رمادا.. سنبني له قصرا في شاهقات النفوس والصنوبر والأرز والسنديان».

قلت وقد هبت بيننا نسمة مضمخة برائحة من زهور «الوزال»:

ـ متى ستغني فيروز من جديد:

«رح فتًح أبوابي..

وانده على صحابي»؟

فأطرق برأسه، وهو يفرك شاربا احتفظ بسواده «حدادا على الضحكة»، ثم قال وهو يشير بإصبعه:

ـ «خلف تلال الغيوم.. أكاد أرى ـ بعيون القلب ـ قوافل صباحات نقية آتية، لحداتها غناء يلتف حوله الناس، وهم يحملون رايات قلوبهم، ليتقاسموا فرحا أخضر بلون لبنان، ولون أحلامهم.

وأدركنا ليل، لكن لبنان كان قد أشعل شموسه».

[email protected]