حصاد أسبوع فلسطيني: حامض حلو

TT

بين الخميس والخميس فقدنا فيصل الحسيني، وخسرنا جولة اعلامية حاسمة لصالح اسرائيل، واكسبتنا عملية تل ابيب الاستشهادية قوة ردع اضافية في عالم توازن الانتقام والارهاب المتبادل، كما نبهت العملية العالم الى ضرورة الالتفات لصنع سلام حقيقي، خصوصاً ان الجناحين العسكريين لحركتي حماس (منفذة العملية) وفتح اعلنا الاستعداد لوقف العمليات في مقابل وقف الارهاب الاسرائيلي والانسحاب، وهذا ذكاء جديد ونادر ... لكن افرازات تلك العملية قد تؤثر سلباً في الوحدة الوطنية الفلسطينية نظراً لتردي اوضاع القيادة وعجزها عن الاقدام وفقدانها لسرعة البديهة في انتهاز الظروف، ناهيك عن وجود خطة ما لديها اصلاً. كان فيصل الحسيني، رحمه الله، المرشح المثالي الوحيد لقيادة فلسطين بعد الرئيس عرفات، وكانت أمنية كل من عرفه عن قريب، وعرف الرئيس عرفات، ان يقوم الاخير بإعلانه نائباً رسمياً، وان كان فيصل بمثابة النائب عبر توليه ملف القدس ووضعه الوزاري في السلطة وعضويته في اللجنة التنفيذية للمنظمة ولأعلى المجالس القيادية في حركة فتح ... كانت القدس تاج رأسه، ولكنها اعاقته عن ترؤس الوفد التفاوضي الفلسطيني رسمياً بعد مدريد، وان كان هو الرئيس العملي للوفد، كما ان الموقف الاسرائيلي تجاه المقادسة هو الذي حد من دور فيصل الظاهري في السلطة. عموماً لم يكن فيصل في حاجة شخصية الى تبوؤ أي مناصب لان موقعه في القلب فعلاً، وليس من واقع النعي والمبالغات، فلا يوجد فلسطيني اخر ظاهر على الساحة ويملك تواضع الحسيني وتقربه من الناس وخروجه معهم في السراء والضراء... لقد كان القيادي المثالي في اجواء زعامات جوفاء لم تعد مؤهلة ولا هي محبوبة من الناس، وانما يتم تحملهم بضغط الواقع الاحتلالي اليومي وتعقيدات القضية التي قيل دوماً انها لا تتحمل هدر الوقت في النقد والاصلاحات والتصحيح، بل هدره في القفز من حفرة الى بئر لان: لا صوت فوق صوت (الثورة، الانتفاضة، الجماهير، فلسطين، التحرير... حتى الديمقراطية استبيحت تبريراً ...) من هنا يأتي التحسس لحجم الخسارة الشخصية والانسانية والوطنية بفقدان فيصل الحسيني... الرئيس الذي لم يعد اتياً للشعب الفلسطيني. رحمه الله.

حول الرئيس عرفات، اطال الله عمره رحمة بزهوة وبالفلسطينيين، يوجد تخبط غير مسبوق فرضته المعطيات المتراكمة والاخرى المتجددة، قيادة تاريخية في الثورة ولكنها مترهلة ومتيبسة في وقت واحد، وكل منهم ينهل من تجارب الماضي السحيق ولا يستثمر مؤهلات اهل الاختصاص المتاحة من حوله، وهم غير مؤهلين لابداء النصح للرئيس في هذا العالم سريع التغير، وفي معركة مقارعة اذكى واغنى عدو حيوي متجدد القدرات والاداء في العالم على الاطلاق (اليهود والصهيونية واسرائيل ...) والى جانب اولئك القادة هناك لفيف اهل اوسلو المستفيدون من البطاقات والمزايا العديدة، والذين يتمنون العودة للهدوء وللتفاوض ليعودوا لعملهم، وأي نصح من هؤلاء للرئيس يعادل وزن الصفر... حول الرئيس ايضاً بعض المخلصين عديمي الخبرة المهنية أياً كان نوعها، مؤهلهم هو الطاعة العمياء، وهمهم الاول حياة ومنصب الرئيس واستمرار شعبيته، وبالتالي دفعه باتجاه الشارع حيناً، وباتجاه اسرائيل واوروبا وواشنطن احياناً اكثر ضمن عملية دائمة للحد من الخسائر الفعلية او المحتملة... ومن هنا يأتي اكثر التخبط والقفز بين الالغام... من العيب والغلط هنا نسيان القلة الجيدة في صفوف القيادة الفلسطينية الرسمية، والكثرة الممتازة التي تحاول ابداء الرأي والنصح للرئيس، ولكن صوت كلتيهما اما لا يُسمع او لا يصل مما يدفع ببعضهم الى القنوط. قبل الاسترسال لا بد من كلام مكرر حول موقع الاعلام في قضية هذا الصراع، وذلك رداً على من يقولون: وما أهمية الاعلام، والرأي العام العالمي المرتبط به، الذي علينا مراعاته والعمل ضمن احكامه؟ الاعلام الان هو امضى سلاح لمن يتقنه وينجح في مهمته، وذلك لعشرات الاسباب سنذكر احدها فقط: اسرائيل هي الطرف الاقوى عسكرياً والقادرة على ضرب الشعب الفلسطيني خصوصاً، وهي مدركة لصعوبة او استحالة التدخل العسكري العربي، والقيادة الاسرائيلية تؤمن بأسلوب القمع والعنف والارهاب الحقيقي على غرار ما يقولون ان هتلر فعل بهم ... الحاجز الاهم بين اسرائيل وتلك الافعال الاضافية هو موقف الرأي العام العالمي المتأثر من الاعلام الى جانب عدالة القضية الفلسطينية، وخصوصاً بفضل انجازات الانتفاضتين، وبالتالي فهدف حكومات اسرائيل وحكومة شارون تحديداً هو اقناع العالم بما يبرر ضرب الفلسطينيين ... تجاهل قصة حقوق الانسان والمواثيق الدولية، فانسان اليوم في العالم (المتحضر) لايختلف عن انسان الامس من أي عصر، غرائزه تؤيد الانتقام والثأر، والعين بالعين ... اذا تحملت اسرائيل خسائرها من عملية واثنتين بدون رد انتقامي صارخ فان العالم سيفكر في أي رد فعل قادم وسيتقبله، وتزداد الامور تعقيداً للفلسطينيين اذا احسنت حكومة شارون استغلال الاعلام العالمي بالتظاهر انها تريد الهدنة والتفاوض والسلام والجيرة الحسنة، وتقدم الفرصة بعد الاخرى وتسكت على الضربات وموت الشبان في مدنها الرئيسية بينما القيادة الفلسطينية ترفض كل ذلك ... هنا تكمن قوة الاعلام لاسرائيل اذ ستدمر كل الصورة البشعة التي البستها اياها الانتفاضة الاولى، وستظهر مجدداً في دور الضحية، وبالتالي تفتح امامها افاق عملية ارهابية ضخمة تؤثر على المستقبل الفلسطيني طويلاً.

للاسف علينا الاقرار بأن اسرائيل نجحت في نهجها الاعلامي منذ ان تولى شارون الحكم كونه استجاب لافكار مهنيين وعلى دراية من حوله، وربط الفعل الاسرائيلي بما يخدم الهدف الاعلامي الخادم للهدف الصهيوني، وتعلم بسرعة من عدمية الانتقام بالمقاتلات الحربية على عملية نتانيا الاستشهادية، فاذا به يطالب بالهدنة في نفس يوم اعلان تقرير لجنة ميتشل، ويصر على عدم الرد الفوري عسكرياً بعد عملية تل ابيب الاستشهادية ومقتل عشرين من الشبان والشابات، بل (الاكتفاء) بالرد الاعلامي الذي اقنع اوروبا وواشنطن بالضغط الشديد على الرئيس عرفات ليعلن الهدنة الفورية حتى قبل تحقيق شروطه وبدون تأكيد ما استعدت له اسرائيل قبل العملية. كان من الممكن تجنب هذا التدهور السياسي لو احسنت القيادة الفلسطينية العمل الاعلامي حتى مع حدوث عملية تل ابيب واربع مثلها. القيادة الفلسطينية اخطأت في عدم تحديدها لهدف اعلامي استراتيجي والالتزام به، مثل اعادة التأكيد على وجود احتلال وقرارات دولية منتهكة، والتذكير بوجود معاهدات مع اسرائيل غير مطبقة وتراجع كل حكومة عما وقعته سابقتها، وسرد لواقع الخسارة اليومية على كل الصعد مع الاصرار على التعويض. القيادة الفلسطينية اخطأت ايضاً في التكتيكات او بالاحرى عدم استعمالها ... مثلاً في اللحظة التي اعلن فيها شارون الهدنة (ناهيك عن ماهية الهدنة) كان على الرئيس المدرك لواقع الحياة العصرية ان يعلن هدنة، بصوت عال، مصحوبة بأمر عدم استعمال السلاح الرسمي الا للرد دفاعاً عن النفس وعن الشعب، ومع تحديد زمني لاسبوعين مثلاً يتم فيها اعلان اسرائيل لوقف الاستيطان حسب تقرير ميتشل، وتنسحب قوات اسرائيل خلالها من المناطق الفلسطينية المحتلة وتزيل كل الحواجز التي نصبتها حول المدن وغير ذلك من الشروط المنطقية التي يطالب بها العالم اصلاً، والا فالقيادة لا تتحمل نتيجة ما ستؤول اليه الاوضاع. موقف كهذا كان سيعطي الناس راحة اسبوعين، ويكشف خبايا اسرائيل لانها لن تنفذ الشروط المنطقية او مطالب تقرير ميتشل، وبالتالي يعفي الرئيس نفسه وشعبه من الحرج، ويزرع شرخاً في التحالف الاسرائيلي، وبينها وبين العالم، ويمهد لاي مقاومة للاحتلال من أي طرف وبأي شكل ... الرئيس ومن حوله لم يجيبوا ولكنهم اخذوا يهدرون الفرصة المتاحة لهم وركزوا على شرح نوايا شارون وعدم جديته وفي عرض مطالبهم بالعودة لشرم الشيخ وللمبادرة الفلانية والتقرير العلاني فاذا بعملية تل ابيب ترهب القيادة الفلسطينية ربما اكثر مما ارهبت شارون فقبل بالهدنة ووضع نفسه على طريق كله الغام شديدة الحساسية. ما زال من الممكن ومن المهم جداً الان انهاء الارتباك القيادي عبر تجديد القيادة واستحداث لجان المشورة المتجددة والاخذ بها، وعبر الفصل بين الامور والمواقف وتوضيحها بعيداً عن الابيض والاسود فالشعب الفلسطيني مسيس واذكى من قيادته وسيفهم المطلوب منه اذا كان سليماً. مطلوب استمرار الانتفاضة بأشكال جديدة بهدف ضمان حق مقاومة الاحتلال، واستحداث مسيرات شعبية سلمية تماماً نحو مدن وقرى فلسطين لتأكيد حق العودة ... باختصار على الشرطة الالتزام بعملها، والمسلحون المدنيون يجب منعهم من الاستعراض في الشوارع، ومهازل حرق الاعلام والهياكل من الافضل ايداع اصحابها في العصفورية ... اما الانتفاضة فهي عمل شعبي لايتم التعرض له، ووقفها في يد اسرائيل عبر التزامها بعملية السلام، وما اعلنه عرفات من هدنة يقتصر على منطقة وزمن وظروف محددة لدرجة ان اسرائيل على لسان وزير حربها تريد صمود الهدنة من رجال الامن الفلسطيني، وهؤلاء كان من الواجب ان لا ينخرطوا في الانتفاضة ابداً ... والمقاومة بأنواعها ضد الاحتلال عمل مشروع لا تستطيع السلطة منعه الا بالتي هي احسن وعبر انهاء الاحتلال او اخذ ضمانات دولية حاسمة ومحددة الزمن لنهاية الاحتلال.