الدعوة إلى مؤتمر دولي جديد

TT

زار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في الأسبوع الماضي، عدة عواصم أوروبية، من بينها بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي، مقترِحا عليها القيام بالدعوة لعقد مؤتمر دولي جديد لتحقيق السلام بين العرب وإسرائيل.

وسيكون المؤتمر الدولي المقتَرَح هو الثاني بعد مؤتمر مدريد الدولي، الذي انعقد بنهاية حرب الخليج ووُضِعت فيه الأسس الكفيلة بتحقيق السلام الشامل العادل القائم على تخلي إسرائيل عن الأراضي العربية المحتلة مقابل السلام.

لم يكن السلام الذي أجمع عليه المؤتمر الدولي بمدريد لا سلاما مشروطا ولا منتقصا ولا خارج الشرعية الدولية التي تضافرت جميع قراراتها على دعوة إسرائيل للانسحاب الكامل من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب سنة 1967، والعودة إلى الحدود التي كانت قائمة في الرابع من حزيران.

ولأن مؤتمر مدريد حضرت إليه الدول العظمى وساهمت فيه منظمة الأمم المتحدة، فإن هذا الحضور كان يعني أن الخيارات التي اعتمدها هذا المؤتمر الدولي لحل مشكلة النزاع العربي الإسرائيلي إنما هي تلك التي أقرتها الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن وأصدرت بها قراراتها الملزِمة التي تشكل ما أصبح معروفاً باسم «مقررات الشرعية الدولية».

وقد انضاف إلى مقررات الشرعية الدولية مفهوم أقرته مواثيق الأمم المتحدة قبل، وركز عليه مؤتمر مدريد، هو أن المشاكل السياسية لا تحل بالقوة، وأن قرارات الشرعية الدولية تعلو على طغيان القوة، وتأكد المبدأ القائل إن ما انتزع بالقوة يرد بقوة الشرعية وحدها. وبذلك رسخ المؤتمر الدولي نعت الأراضي العربية التي اغتصبتها إسرائيل بالمحتلة ولا شرعية للاحتلال.

يمكن القول إن عقد مؤتمر مدريد أضفى من جديد على الحق العربي شرعية كان في حاجة إليها، وأنه شجب أطماع إسرائيل التوسعية في أراضي الغير، وأزاح عنها كل شرعية موهومة وزائفة.

ولقد أدركت منظمة التحرير الفلسطينية هذا التوجه فسارعت بدورها إلى الاعتراف بالقرارات 242 و 338 وكانت ترفض التعامل معهما.

وارتاحت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية إلى هذا التحول الذي طرأ على موقف فلسطين، وربما اعتبرتا أن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بالقرارين كسب لهما، وخاصة لإسرائيل التي ارتاحت إلى توجه فلسطين في وجهة إحقاق سلام عادل منصف حتى لإسرائيل نفسها، حيث تضمن اعتراف الفلسطينيين بالقرارين ضمنياً الاعتراف بوجودها في حدود سنة 1948 وهو ما لم تكن تحلم به.

وجاءت مرحلة أوسلو تعكس هذا التحول، وهي وإن كانت قد جزأت الحل، ورسمت له المراحل، فقد كان المفروض أن يكون رفع الاحتلال الإسرائيلي وتطبيق الشرعية خاتمة المطاف بعد المسار «الماراطوني» الطويل، خصوصا وأوفاق أوسلو جاءت منفتحة على تسوية نهائية في إطار مقررات الشرعية في مرحلة الحل النهائي.

لكن إسرائيل لم تكتف بما أعطته لها أوفاق أوسلو من مكاسب، وإنما طبقت سياستها القائمة على مبدأ «خُذْ ولا تُعْطِ» و«عِدْ ولا تَفِ».

وبقدر ما أبداه الفلسطينيون من حسن النية لتنفيذ الأوفاق المبرمة بينهم وبين إسرائيل، فإن هذه الأخيرة لم تكن تراهن إلا على أمنها بواسطة فلسطين التي أرادتها أن تكون الشرطي الحامي لأمنها. وكلما سارت المفاوضات سيرها البطيء المتعثر كانت تبدو واضحة صورة إسرائيل التي لا ترغب في السلام، ولكن تطمع في الأمن بدون مقابل. وبذلك نسفت إسرائيل قاعدة المؤتمر الدولي التي أقام عليها المجتمع الدولي خطته لبناء صرح السلام عليها.

وقدمت الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل جميع الشروط المساعدة لها على نسف قاعدة مؤتمر مدريد وتوجيه المفاوضات في وجهة مغايرة لتلك التي اعتمدها المؤتمر عند انعقاده.

إن الولايات المتحدة الأمريكية نجحت في فرض انفرادها برعاية السلام ونحّت روسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي وحتى هيأة الأمم المتحدة من طاولة اللعبة، وجعلت من إسرائيل بذلك اللاعب الوحيد، بل تجاوزت ذلك إلى أن أصبحت شريكة متواطئة مع إسرائيل في إدارة لعبة السلام. وطرحت حلولاً أو تسويات متنافية مع مبدأ الأرض (كل الأرض) مع السلام لفائدة العرب وإسرائيل. ولم تعد مرجعية الشرعية الدولية تتحكم في سير المفاوضات وتشكيل حل السلام العادل، بل أصبحت أسس المفاوضات هي ما تطرحه هي وإسرائيل على الجانب الفلسطيني من أرباع الحلول وحتى أقل من ذلك. ولم يكن للمفاوضات أن تسير في هذه المؤامرة على الشرعية الدولية لو ظلت مَرْعِية من الفرقاء الآخرين لرعاية السلام. وهم جميعا ما كانوا ليسمحوا بتحويل مسيرة السلام إلى مسيرة تثبيت الاحتلال الإسرائيلي وإضفاء الشرعية الجديدة عليه، وكلهم كانوا سيَتَخَنْدَقون بجانب العرب الذين كافحوا ـ وما يزالون ـ لتركيز السلام على دعائم الشرعية الدولية التي لا تتقيد بها لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة الأمريكية.

بالرغم مما كان يبدو ظاهريا على الرئيس الأمريكي الأسبق «بيل كلينتون» من حرص على تحقيق السلام وتظاهُر بجنوح الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن يكون هذا السلام عادلاً ومنصفاً للأطراف المتنازعة، فإنه كان يبدو منحازاً إلى إسرائيل، لأنه قبل وعمل على أن يكون هذا السلام خارج الشرعية الدولية. وكان يعتقد أن قبول الفلسطينيين سلاماً منتقَصاً مغشوشاً على أنه الحل النهائي الدائم هو مكسب لإسرائيل، أو هي المستفيدة منه بالدرجة الأولى، لأن قبوله من لدن إسرائيل سيكون إنجازاً كبيراً لفائدتها هي قبل غيرها، إذ كان سيشكل مرحلة قبول العرب بوجودها الشرعي في المنطقة والتطبيع الكامل معها. ومن ثم يفتح لها آفاق الهيمنة الاقتصادية على المنطقة الشرق أوسطية وهو الاسم الذي روج له «شمعون بيريز».

لكن إسرائيل لم تقبل ما عرضه عليها الراعي الأمريكي طمعا منها فيما هو أزيد. ولم يكن خلاف الطرفين سوى خلاف في الاجتهاد على مقدار الفائدة التي ستجنيها إسرائيل في المرحلة، مع اتفاقهما على أن هذا السلام لا يشكل الحل النهائي، وأن لإسرائيل أن تتجاوزه لتحقيق ما بقي من مطامعها في مرحلة لاحقة تدخل معها المقاومة الفلسطينية في حالة الإحباط المؤدية إلى حالة القبول بما هو متاح وممكن، طبقاً للقاعدة الانهزامية القائلة: «ليس في الإمكان أبدع مما كان».

إن عقد مؤتمر مدريد الثاني (أو المكرّر) سيمكّن المجتمع الدولي من التوفر على رؤية جديدة لمعالجة قضية السلام، بعد أن أفقدته المناورات الإسرائيلية الأمريكية رؤيته الواضحة التي كانت وراء عقد مؤتمر مدريد.

وسيكون عقد المؤتمر الدولي حركة تصحيحية لمسيرة عملية السلام، ووضعاً لقطار السلام على سكته التي زاغ عنها بفعل دوران العملية في حلقة مفرغة، وبسبب نكوص راعي السلام الأوحد عن مبادئ السلام الحق، وسكوت المجتمع الدولي عن عملية الانقلاب غير الشرعية التي دبرت على مبدأ السلام العادل.

إن حل مشكل النزاع العربي الإسرائيلي لن يتحقق بواسطة جرعات مسكنة يعالج بها أطباء غير مختصين مرض الاحتلال الاسرائيلي العُضال المزمن، ولا بتسويات يسترجع فيها العرب أراضيهم بعمليات انتقائية تتبرع فيها إسرائيل عليهم ببعض أشبار أو أمتار وحتى أميال من هنا وهناك من أرضهم المغتصبة، بل يتحقق فقط بتطبيق قرارات الأمم المتحدة التي لا يجوز الخروج عليها. وهذا هو المبدأ الوحيد الذي يجب أن ينعقد على أساسه المؤتمر الدولي للسلام الجديد. ومن أجل ذلك، فالجامعة العربية، والمؤتمر الإسلامي، ودول عدم الانحياز، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، مدعوة إلى مساندة اقتراح عقد المؤتمر الدولي للسلام.