التحول في الخليج (1): النظام العراقي يبحث عن انتصار دبلوماسي وليس تسوية تحل المشكلة

TT

طوال الربع قرن الماضي كان الخليج ولايزال يتبوأ مكانة هامة في قلب السياسة الدولية باعتباره منطقة ذات اهمية جيو/ اقتصادية ومسرحا محتملا لنزاعات ايديولوجية وفكرية وعسكرية، الا ان التكهنات حول انهيار المنطقة اثبتت انها متعجلة، إن لم تكن سخيفة كلية. لقد تمكنت المنطقة من استيعاب سلسلة من الصدمات ابتداء من الثورة الخمينية في ايران الى الحرب العراقية الايرانية ثم حرب تحرير الكويت.

ومع ازدياد توتر نزاع الشرق الاوسط مرة اخرى، وتبوء مستقبل العراق قمة الاجندة الدولية، فإن الخليج يعود الى مركز الاهتمام.

أمير طاهري يطلع خلال جولة في عدد من دول الخليج، ثم زيارة لواشنطن على المستجدات في عدد من دول المنطقة والافكار الجديدة التي تتبلور داخل ادارة بوش.

في سلسلة من المقالات تبدأ اليوم يقدم طاهري انطباعاته عن المنطقة.

ما الذي ينبغي فعله تجاه العراق؟ سؤال يشغل كثيرا الدوائر السياسية بواشنطن، فمسألة العراق اصبحت مادة للبحث والتكهنات المستمرة. وحتى النزاع الراهن في الأراضي الفلسطينية لم يصرف الأنظار عن الاهتمام بموضوع العراق. كما ان ما لا يقل عن 11 مركزا للبحوث وأكثر من عشر مجموعات ضغط تعمل في الوقت الراهن في مشاريع خاصة تتعلق بالعراق، اذ تعكف هذه الجهات حاليا على إعداد كم ضخم من الأفكار والمقترحات ذات الصلة بالمسألة العراقية بما في ذلك بعض المقترحات التي يمكن ان توصف بانها غريبة وغير مألوفة.

ثمة مؤشرات على ان ادارة الرئيس الحالي جورج بوش في طريقها الى سياسة زيادة الضغوط على العراق على أمل تغيير النظام الحالي، اذ من المتوقع ان يأتي «الضوء الأخضر» من الرئيس بوش بنهاية شهر يونيو (حزيران) المقبل. غير ان ذلك يتطلب بالضرورة اعادة نظر كاملة في الجوانب الأخرى ذات الصلة بالسياسة الأميركية تجاه الشرق الاوسط بما في ذلك العلاقات مع ايران والنزاع العربي ـ الاسرائيلي والعلاقات مع الأطراف العربية المعتدلة.

يقول توم لانتوس، العضو الديمقراطي البارز في لجنة العلاقات الخارجية التابعة للكونجرس الأميركي، انه لا يمكن التوصل الى سلام دائم في الشرق الأوسط من دون التوصل الى حل للمشكلة العراقية». يتفق مع وجهة النظر هذه ويليام سافاير، الجمهوري المعروف والكاتب والصحافي البارز. ويقول سافاير ان «وجود صدام حسين في السلطة يعد عنصر عدم استقرار مستمر في منطقة حيوية».

ويلاحظ ان عبارات مثل «العقوبات الذكية» لم تعد تذكر اذ حلت محلها عبارات جديدة أصبحت أكثر شيوعا مثل «الاحتواء الفاعل» و«التخفيف». كما ان هناك اجماعا حول ضرورة ان يستكمل بوش الابن ما بدأه والده وذلك بالمساعدة في تغيير النظام العراقي. ويقول جيم هوجلاند، الكاتب بصحيفة «واشنطن بوست الأميركية» والمؤيد لاطاحة صدام حسين ان «الاحتواء» يمكن قبوله فقط كتمهيد لـ«اطاحة» النظام العراقي.

ثمة اجماع آخر كذلك على ان نظام العقوبات المعمول به في الوقت الراهن يجب ان يخضع لاعادة صياغة وتنظيم على نحو يمكّن من تجريد صدام حسين من سلاحه الدعائي الرئيسي والسماح لمعارضيه بالتركيز على فشله في اعادة العراق الى المجتمع الدولي. وعندما يتعلق الأمر بمسألة العقوبات، فان الفريق المؤيد لاطاحة صدام على قناعة بأن فعالية هذه العقوبات ضعيفة تماما مثل ضعف المطالبين بالغائها فورا. يطرح انصار الغاء العقوبات حجتين متناقضتين، الاولى تتلخص في ان العقوبات لا فعالية لها باستثناء اعطاء صدام شرعية امام الشعب العراقي والدول العربية بصفة عامة. ويتركز منطق هذه الحجة في انه طالما كان الغرض هو الاطاحة بصدام حسين فمن الأفضل الغاء هذه العقوبات فورا حتى لا يتمكن من اتخاذها سببا في تبرير تردي الأوضاع في العراق. ويرى انصار الالغاء الفوري للعقوبات انها طالما ظلت مفروضة فان الشعب العراقي سيفتقر الى الطاقة التي تمكنه من السعي الى احداث التغيير اللازم.

تتلخص الحجة الثانية في الاعتراف بفعالية العقوبات ولكن مع المطالبة بالغائها بصرف النظر عن اية حسابات سياسية لأن استمرارها يعني استمرار معاناة الشعب العراقي.

وأكد الأمين العام للامم المتحدة كوفي انان في آخر تقرير صادر حول العراق ان بحوزة بغداد كميات كافية من الأموال تسمح لها بمعالجة مشاكل التغذية بين اطفال العراق والانفاق على الرعاية الصحية. كما اورد التقرير كذلك انه خلال فترة الأربع سنوات التي طبقت فيها منظمة الامم المتحدة نظما «النفط مقابل الغذاء» ارتفع عدد مراكز الرعاية الصحية للاطفال من 100 الى 2388، اذ يعتبر هذا أكبر عدد من مراكز الرعاية الصحية الخاصة بالاطفال في تاريخ العراق. ومنذ عام 1996 باع العراق كميات من النفط يقدر عائدها بما يزيد على 40 بليون دولار اميركي، بالاضافة الى بضائع قيمتها أكثر من عشرة بلايين دولار جرى توزيعها على السكان الى جانب بضائع اخرى قيمتها 8.8 بليون دولار بانتظار موافقة بغداد على توزيعها على السكان. يضاف الى ما سبق ان هناك مبلغا يقدر بحوالي 3.3 بليون دولار في حساب للعراق تحت اشراف منظمة الامم المتحدة. وطبقا لتقديرات الامم المتحدة فان السلطات العراقية تسيطر على عدد من الحسابات وصل جملة المبالغ المودعة فيها عام 2000 الى 12 بليون دولار مما يجعل العراق أكثر دول «اوبك» ثراء من ناحية السيولة. السبب وراء موقف صدام حسين واضح، فهو قد ظل يزعم خلال فترة السنوات العشر الأخيرة انه «سيكسب الحرب» رغم «خسارته لبعض المعارك في حرب الخليج»، على حد ادّعائه. يقول عبد الرزاق الهاشمي، مساعد صدام حسين والسفير العراقي السابق في باريس، ان صدام حسين وعد قبل عشر سنوات بانهيار العقوبات، مضيفا انهم لا يريدون ان ترفع العقوبات وانما يريدونها ان «تنهار». ويرى الهاشمي ان لا علاقة للعقوبات مع البرامج الدفاعية للعراق.

يبدو واضحا ان صدام يبحث عن انتصار دبلوماسي وليس تسوية تحل المشكلة وتلغي بالتالي انتصاراته المزعومة. ويعتقد المحللون ان صدام حسين نجح في البقاء في السلطة حتى الوقت الراهن بفضل استراتيجية معقدة قائمة على اساس الرشوة والقمع. فقد توصل الى اتفاق مع ستين من زعماء العشائر الذين يسيطرون على اجزاء كبيرة في وسط وجنوب العراق، ومنحهم لقاء ذلك قدرا كبيرا من الحكم الذاتي في مناطقهم الى جانب منحهم امتيازات مالية كبيرة وتسهيلات اخرى بما في ذلك نصيب في نشاط التهريب. لا تمثل هذه العشائر أكثر من نسبة 15 في المائة من عدد سكان العراق، غير ان اهميتهم تكمن في سيطرتهم على اراض واسعة واستعدادهم لاستخدام السلاح في خدمة النظام العراقي. اما القمع فقد ظل استراتيجية رئيسية لاستمرار صدام حسين في السلطة، اذ اعاد بناء حرسه الجمهوري الذي يصل حجمه الى 12 وحدة بما في ذلك أربع وحدات مزودة بالمصفحات والمركبات المدرعة. ويقدر عدد افراد اجهزة الأمن بما في ذلك القوات المسلحة والشرطة والوحدات العسكرية غير النظامية بحوالي 600 ألف جندي وضابط، علما بان هذا العدد يقارب حجم القوات المسلحة لايران التي يقدر عدد سكانها بثلاثة اضعاف سكان العراق. ويركز نظام صدام حسين على البقاء والاستمرار دون أي اهتمام بالمهام والواجبات المألوفة التي تباشرها الحكومات. يحصل العراق على جزء من موارده من خلال برنامج «النفط مقابل الغذاء» الذي تسيطر بغداد بموجبه على توزيع الاحتياجات الرئيسية للسكان. وطبقا لما ذكره مسؤولون أميركيون، فان صدام حسين خصص صندوقا يقدر بحوالي ثمانية بلايين دولار لتوزيعها بين مؤيديه ولتمويل البرامج السرية للاسلحة. وكان العراق قد اعلن في سبتمبر (أيلول) العام الماضي عن فرض قيمة اضافية تبلغ 40 سنتا على كل برميل نفط ينتجه على ان تودع الزيادة في العائدات في الصندوق المشار اليه. معروف كذلك ان العراق يشارك في انشطة تهريبية واسعة مخالفا بذلك القرارات الصادرة عن الامم المتحدة. ويذكر كذلك ان العراق يبيع لتركيا شهريا ما يقدر بحوالي 1500 طن من الجازولين في تحد واضح لهذه القرارات، كما ان القوات الكردية التي تسيطر على اجزاء من الحدود مع تركيا تتقاضى نصيبا لقاء سماحها لصدام بتجاوز قرارات الأمم المتحدة. ويهرب العراق ايضا ما يقدر بحوالي 100 ألف برميل من النفط الخام الخفيف عبر شط العرب وهو نهر حدودي تحت السيطرة الفعلية لايران في الوقت الراهن. يضاف الى ما سبق ان مصفاة كرمنشاه القريبة من الحدود العراقية-الايرانية تستقبل يوميا حوالي 14000 برميل من النفط العراقي، كما يشتبه في ضلوع بعض شركات النفط الغربية في انشطة التهريب، اذ فرضت على شركة «رويـال داتش شل» العام الماضي غرامة قدرها مليونا دولار بسبب محاولتها تهريب نفط عراقي عبر الخليج العربي. اسس صدام حسين خلال السنوات العشر السابقة نمطا سلوكيا محددا يشير الى عدم قبوله بالنتيجة النهائية لحرب عام 1991 التي اخرجت فيها قواته من الكويت. فهو يردد باستمرار خلال حملته الدعائية ان الحرب لا تزال مستمرة وان «الاهداف الكبرى للامة العربية» ستتحقق في نهاية الامر، اذ تشير هذه العبارة الى حلم صدام بضم الكويت. يذكر انه بموجب بنود اتفاق وقف اطلاق النار وواجبات العراق تجاه منظمة الامم المتحدة يجب على بغداد الاعتراف باستقلال الكويت ووحدة اراضيها والتخلي عن النوايا العدوانية. وكان المجلس الوطني (البرلمان) العراقي قد اجاز قانونا بهذا المعنى، غير ان مجلس قيادة الثورة لم يصادق عليه بعد كما لم يوقع عليه صدام حسين بوصفه رئيسا للدولة. من المؤشرات على نوايا صدام حسين خلال السنوات الأخيرة حشده للقوات العراقية على طول الحدود مع الكويت عام 1998 في خطوة استفزازية واضحة. وقد اجبر على اصدر اوامره لقواته بالانسحاب نتيجة لعملية ثعلب الصحراء التي امر بها الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون. ويتضح عدم تغيير صدام حسين لسياسته في التحرك الذي قام به في عام 1996 عندما ارسل دباباته الى اربيل، داخل المنطقة الآمنة الكردية لضرب جناح كردي لحساب جناح اخر يرتبط معه بتحالف تكتيكي.

ان قضية ما اذا كان يجب استمرار العقوبات الحالية او الغاؤها هي قضية نقاش مشروع. ولكن القضية الاساسية هي عما اذا كان هناك حاجة ام لا لآلية لاحتواء العراق ومنعه من نشر عدم الاستقرار في المنطقة. ان الدول الثلاث اصحاب العضوية الدائمة في مجلس الامن التي تثير ضجيجا بين الحين والاخر ضد العقوبات لم تقدم حتى الآن اية آليات. لقد حاول البريطانيون ادخال صدام حسين في حوار يتعلق بنظـام جديد للمراقبة والسيطرة على برامج العراق العسكرية مقابل وقف العقوبات. الا ان صدام حسين اعتبر التحرك البريطاني كدليل على الانقسام في مجلس الامن ورفض مناقشة اي شيء ولكن الالغاء الكامل غير المشروط للعقوبات.

ويمكن القول بوجود ثلاثة بدائل في التعامل مع العراق. الاول هو وضع خطة بديلة لاقصاء صدام حسين. والادعاء من جانب البعض في الغرب هو ان صدام يتمتع بشعبية نتيجة للعقوبات، هو اعتقاد غير صحيح. ففي بلد يفتقد لأي آلية لدراسة الرأي العام، يشك في اية مظاهرات لتأييد الزعيم. والبديل الثاني، الذي تفضله فرنسا وروسيا والصين، هو اعتراف الامم المتحدة بالهزيمة والانسحاب من العراق، والسماح لصدام حسين بالقيام بما يريده. مثل هذه السياسة يمكن ان تبعد العراق عن الانظار لفترة من الوقت. لا أحد يشير الى ان صدام حسين سيشن حربا جديدة فورا، ولكن الحقيقة انه لا يزال في السلطة، وان عدم وجود اية سيطرة سيكون كافيا لنشر عدم الاستقرار في الخليج.

والبديل الثالث هو الاستمرار في سياسة «الاحتواء» مع بعض التعديلات. ويجب الحفاظ على بعض الاجراءات الرمزية لتأكيد وضع النظام الحالي في بغداد كنظام مرفوض دوليا.

ويجب ان يضمن ذلك رفضا لتطبيع العلاقات واستعادة الاتصالات الدبلوماسية على مستوى عال. كما يمكن تجميد الحسابات المصرفية الواقعة تحت سيطرة القيادة العراقية، ومعظمها في دول الاتحاد الأوروبي، او على الاقل وضعها تحت الرقابة. والاهم من ذلك، يجب استمرار حظر بيع المواد ذات الاستخدام والتقنية المزدوجة.

ولكي نضمن عدم انتهاك الحظر يجب وضع نظام لعقاب الشركات الدولية، ومعظمها شركات غربية، القادرة وحدها على تقديم ما يحتاجه العراق لبرنامج اسلحة الدمار الشامل. ان الخوف من التعرض للمحاكمة امام المحاكم الاميركية كان عنصرا قويا في ابتعاد الشركات الاميركية ومتعددة الجنسيات من الاستثمار في صناعات الطاقة الايرانية خلال السنوات الخمس الماضية. واجراء مماثل يمكن ان يذهب لحد بعيد في تعقيد الامور امام العراق لضمان الشراكة الدولية لاعادة بناء اسلحته. ومن نافلة القول ان الحظر الدولي على بيع اسلحة الدمار الشامل الى العراق يجب ان يظل في مكانه.