ثمن الضعف

TT

نشكو كثيرا من عنجهية الإمبراطورية الأميركية وتدخلها في شؤون المنطقة، ونطالب أميركا بالانسحاب من العراق، وتطالبها إيران بالانسحاب من الشرق الأوسط برمته، ذلك لأننا ندفع ثمن القوة، ترى من سيدفع ثمن الضعف؟

المشهد الاستراتيجي الإقليمي، كما رسمته حركة المؤتمرين في شرم الشيخ الأسبوع الفائت، يوحي بضعف أميركي واضح، إذ أن وزيرة الخارجية الأميركية هي التي كانت تتحين الفرصة للحديث مع الوزير الإيراني منوشهر متكي، وان الرجل هو الذي خرج من الحفل الموسيقي بدعوى خلاعة فستان إحدى العازفات. الحقيقة هي أن متكي كان يتجنب لقاء رايس.. ولكن كيف وصلت إيران ووزير خارجيتها إلى هذا الحد من الغرور؟

من خلال تعاملهم مع الأميركيين على الأرض في البصرة، ومن خلال تعاملهم مع الأوروبيين في الملف النووي، كان الانطباع الإيراني أن أميركا محدودة القدرات، وأنها لا تمتلك أدوات لحسم الموقف في العراق، ومواجهة الجماعات الانتحارية والميليشيات الممولة إيرانيا. أميركا غير قادرة على الذهاب إلى العنوان الرئيسي للهجمات، وهو طهران وليس البصرة أو الكوفة. الضعف الأميركي يجعل الإيرانيين يشتمون رائحة الدم ويدفعون بفرق الموت إلى الميدان، فهل سيهرب الأميركيون من المواجهة، أم أن لديهم أوراقا أخرى سيلعبونها غير محاصرة إيران دبلوماسيا؟

في تعامل إيران مع الأوروبيين، تكون لديها انطباع بأنها تتعامل مع مجموعة رخوة من الدول تسمى بالاتحاد الأوروبي، ورغم أن أوروبا تصوت ضد إيران في مجلس الأمن، إلا أن هناك جزءا كبيرا من النخب المثقفة الأوروبية، وربما الحاكمة، تدفع باتجاه الانفتاح نحو إيران.

في الوقت الذي كانت فيه كوندي رايس في شرم الشيخ تحاول أن ترسم للعالم صورة إيران المتشددة والمتهربة من اللقاءات الدبلوماسية والرافضة لأي حوار، كان نائب وزيرة الخارجية الأميركية نيكولاس بيرنز في لندن، يحاول إقناع المجموعة الأوروبية بإغلاق البنوك والقروض في وجه التجارة الإيرانية، وكذلك محاصرة إيران اقتصاديا وماليا، وأتيحت لي فرصة لقاء بيرنز والاستماع إليه في لندن، حيث قضى الرجل يوما كاملا في لندن يتحدث في أكثر من مكان مشددا على خطورة إيران، لم يكن مقنعا للأوروبيين بالشكل الذي يرضاه هو. كان كل حديثه عن صيغة التعاون الأوروبي الأميركي الجديد، ولكن بيرنز الذي كان سفيرا لأميركا لدى الناتو في بروكسل، لا يعرف أوروبا السياسية بقدر معرفته لأوروبا الأحلاف العسكرية.

المهم في كل هذا، أن الخارجية الأميركية تسعى بكل ما لديها لمحاصرة إيران، في الوقت الذي تبدو فيه جادة لفتح حوار معها.

لقاء كوندوليزا رايس بوزير الخارجية السوري وليد المعلم في شرم الشيخ، هو محاولة أميركية أخرى لعزل إيران حتى عن أقرب حلفائها، رغم أن الحوار لم يأت على ذكر هذا العزل، ولكن مجرد لقاء رايس بالمعلم وعدم اللقاء بمتكي هو بداية لخلق هذا الشرخ.

الناظر إلى كل هذا لا تفوته ملاحظة الضعف الاميركي عسكريا ودبلوماسيا، والضعف أحيانا أخطر بكثير من القوة، فالقوة يمكن إدارتها وترشيدها، لكن الضعف يدعو في كثير من الأحيان إلى تصرفات متعجلة من أجل إنقاذ سمعة أو الحفاظ على دور. أميركا اليوم تقترب من عقلية طهران، فليس بالضرورة أن ترسل فرقا انتحارية أو أن تعمل على إيجاد وحدات انتحارية بين جنودها، لكن قراراتها تبدو قريبة من عقلية العمليات الانتحارية، فقد نرى الولايات المتحدة تتخذ إجراء عسكريا صارما ضد إيران حتى تنقذ سمعتها في المنطقة.

على لوحة الشطرنج الإقليمية اليوم، لا تشاكس إيران أميركا فحسب، لكنها (تغزو) أيضا الدول العربية في عقر دارها، فإيران عنصر حاسم في الملف اللبناني، وهي تتحكم في خالد مشعل المقيم في دمشق، كما أنها لاعب أساسي في العراق والبحرين.. عينها ليست على الجوار، كما يتصور البعض، ولكنها على اللاعب الأميركي الذي يسعى الإيرانيون إلى ان يفضي تفاوضهم معه في يوم ما إلى اعتراف أميركي بالهيمنة الإيرانية على الخليج، أو في أسوأ الأحوال القبول بدور محوري لطهران في رسم السياسات الإقليمية.

ومع هذا، فإيران ليست بالقوة التي تدعيها، فهي مجتمع ينخر فيه السوس من الداخل، وهو نظام يحاول أن يخلق من المواجهات الخارجية، شعبية داخلية تقوي الجبهة الداخلية وتنقذ النظام كلما اقترب من الورطة أو تنازعته شروخ داخلية.

المشهد الاستراتيجي ببساطة هو أن إيران تدعي قوة غير موجودة وتمارس سياسات قد تؤدي في القريب العاجل إلى مواجهة.. وعلى الجانب الآخر، نرى أميركا تتخبط سياسيا في الداخل وليست لديها استراتيجية إقليمية للأمن، وقد يدفعها ذلك أيضا إلى سلوك عدواني أو إلى البحث عن مخرج استراتيجي.. العراق هو ساحة اللعب الاستراتيجي، وقد تتسع هذه الرقعة لتشمل المنطقة بأكملها.

إذا ما قرر الأميركيون الانسحاب المفاجئ من العراق، نتيجة لضغط داخلي وعالمي، فإن فراغا استراتيجيا سوف يحدث بالتأكيد، ولن يملأ هذا الفراغ في العراق سوى إيران، لأن الدول العربية غير مهيأة للقيام بذلك.

العرب قادرون في لحظة الضعف الأميركي ان يرسموا تصورا للأمن الإقليمي كورقة بديلة تضع إيران في حجمها، وقد تمثل طوق النجاة بالنسبة للأميركي المأزوم. الفرص سانحة من أجل عمل عربي جاد، لكن المشكلة اليوم هي أن الرباعية العربية المتمثلة في مصر والسعودية والإمارات والاردن، التي تقوم بهذا العمل العربي الجاد، قد أصبحت هدفا لسهام مسمومة من الميليشيات الإعلامية العربية، التي لا شغل لها سوى الابتزاز.

كما أن التنسيق السعودي ـ المصري، الذي هو في نظر أي محلل محايد المنقذ للوضع العربي في هذه المرحلة، يخضع لابتزاز الميليشيات الإعلامية ذاتها، فمن يقرأ بعض الصحف المصرية اليوم، لا تفوته غمزات مثل «الدور»، أو كيف أن السعودية خطفت المكانة الإقليمية لمصر، إلخ.. إذن، داخل هذه الدول التي تسعى لإنقاذ التدهور العربي، معاول إعلامية هدامة تقدم نفسها على أنها أصوات وطنية.. في الصحافة المصرية اليوم (لوبيات) كاملة متكاملة، فهناك اللوبي الإيراني بمفكريه وكتابه وصحافييه، وهناك اللوبي الليبي الكاره لأي تنسيق سعودي ـ مصري، وهو اليوم الأعلى صوتا في القاهرة.

إذن، ما العمل؟

أمام الدول العربية، مصر والسعودية تحديدا، فرص لطرح تصور للأمن الإقليمي دونما خجل، تصور يسمي المنطقة العربية باسمها، أي لا دور لإيران أو إسرائيل فيها، منطقة عربية تتعامل مع الاتحاد الأوروبي ومع الولايات المتحدة كند لا يقل عنهما، خصوصا أن الولايات المتحدة بحاجة إلى عملية إنقاذ عاجلة.. أما أن تخجل الدول العربية من إيران، أو أن يبتزها اللوبي الإيراني المسيطر في بعض العواصم العربية، فإن ثمن الضعف الأميركي سيكون سيطرة إيرانية على مقدرات الخليج.