قراءة عربية في مشهد إقليمي

TT

علّ أصعب ما تعرّض له الشباب العربي في السنوات الخمس الأخيرة، هو التشويش المفهوماتي حول ما يجري في منطقتنا العربية سواء أكان مخططاً عدوانياً تقوده قوى دولية ضدّ العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال، أم تفاعلاً مع هذا المخطط من قبل من يُفترض أنهم مؤتمنون على بلدانهم وشعوبهم. وقد يكون هذا أهم ما لمسته لدى طلاب جامعتي حلب وحماه حين أجريت ندوة حوارية معهم في خضمّ ما تسمى بالأزمة التي تعرّضت لها حكومة أولمرت، التي تلطّخت أيدي كلّ أعضائها بالعار والفشل وجرائم قتل المدنيين الأبرياء في لبنان وفلسطين، وفي أعقاب صدور تقرير فينوغراد وانعقاد مؤتمر شرم الشيخ حول العراق، الذي حاولت إدارة بوش تحويله إلى مؤتمر دولي جمعت له وفود 49 دولة تستجديهم لإيجاد مخرج لها من المأزق الذي وجدت نفسها فيه بالعراق. وقد ساعدتني المناظرة التلفزيونية بين سيغولين رويال وساركوزي لأخلّصهم من بعض المفاهيم حتى قبل أن يبلغ الحوار عمقه ومبتغاه، ومن ضمن هذه المفاهيم مثلاً مفهوم «الاستقواء بالعدوّ»، الذي يسمى حيناً الشرعية الدولية أوالمجتمع الدولي، ولكنّه الغرب المتوحّد ضدّنا، هذا المفهوم الذي تتبناه بعض قوى «المعارضة» أو«الموالاة» عندما تتنازل عن السيادة والهوية خلال صراعها مع الشقيق لصالح العدوّ. وأشرت إلى أنّ تلك المناظرة الشيّقة بين رويال وساركوزي دفعتني أن أغبط من يتنافسون في خدمة بلدانهم فقط، ومن يرفعون أداءهم ليقدّموا خدمةً أكبر لشعوبهم. وتخيّلوا مثلاً لو أن أياً من المتنافسَين قد تلقّى مساعدة أجنبية أو دعماً معنوياً من قوى يُشكّ في حرصها على مصلحة فرنسا، لو حدث ذلك لسقط المرشّح فوراً. كيف يتهاون بعض العرب إذاً مع من لا يمتلك مرجعية عربية في الهوية والفكر والسياسة؟ وكيف يمكن أن يتجرّأ من يُمضي وقته في الاستقواء بالخارج على من يسقي تراب وطنه بدمائه ودماء أبنائه؟ إذاً مصدر التشويش الأساسي هو غياب المعيار الوطني الحقيقي والثابت والصادق والشفاف لقياس الأعمال، والذي لا بدّ أن نتوصّل إليه ليشكّل مرجعية عربية ثابتة تهتدي بهديها الأجيال.

ومصدر هذا التشويش هو عدم وجود مصدر يصنع الخبر العربي، وانشغال الإعلام العربي بتلقي الأخبار مسبقة الصنع المتعلّقة بنا وبأمننا وحقوقنا من الآخر، والدوران داخل مفاهيمها، والقصور في صناعة خبر يُعبّر عن المفاهيم التي تعبّر عن الواقع الفعلي، وبحقيقة مواقفهم وحقيقة مواقفنا وحقوقنا. فمثلاً حين صدر تقرير لجنة فينوغراد، انشغل الإعلام العربي بهذه المحاسبة لقادة إسرائيل وبالآراء الإسرائيلية المختلفة التي تمّ التعبير عنها من دون أن يتوقّف الكثيرون عند تفسير كلمة «إخفاق» والتي كانت هي سبب «اللوم» الذي تمّ توجيهه لقادة الحرب الفاشلة التي شنّوها على الشعب اللبناني. فبماذا «أخفق» أولمرت؟ أوَ لم «يخفق» في القضاء على المقاومة اللبنانية رغم إصداره الأوامر المباشرة لجيشه وطيرانه الحربي باستهداف المدنيين ومنازلهم وقراهم؟ هذا يعني أنّه لو «نجح» في القضاء على هذه المقاومة حتى لو ارتكب أشنع الجرائم كانت اللجنة ستبرّئه وستعتبره بطلاً كما اعتبرت مجرمين قبله كشارون وبيغن وشامير أبطالاً؟ أوَ ليس جديراً بالملاحظة أنّ اللجنة لم تتوقف عند آلاف الأطفال الذين استهدفتهم الطائرات الحربية الإسرائيلية وقصفتهم وهم نيام في الضاحية وقانا وبقية قرى الجنوب، وقتلت الآلاف منهم ومن أمهاتهم وعوائلهم، ودمّرت مئات المدارس، والجوامع والكنائس، والجسور، والمكتبات، والمنازل وألقت بمليون ومئتي ألف قنبلة عنقودية على أرض لبنان قبل انسحابها بيوم واحد؟ إنهم مجرمون «أخفقوا» أم «نجحوا» هذا هو المفهوم العربي لمن ارتكب كل تلك الجرائم بحقّ المدنيين، وقام بتدمير حياتهم الآمنة في لبنان، أما «الإخفاق» فهو مفهوم الإسرائيليين وحسب معايير احتلالهم واستيطانهم. لقد أخفق أولمرت بالنسبة للإسرائيليين، وبالنسبة لنا فهو لا يقلّ إجراماً وحقداً وقتلاً عن أيّ مجرم حرب. هذا هو المفهوم من وجهة نظر أسر ألف مدني لبناني ونيّف قتلتهم الطائرات الحربية التي أرسلها أولمرت وبوش إلى لبنان، وهو أيضاً كذلك من وجهة نظر أكثر من خمسمائة طفل فلسطيني قتلهم أولمرت وحكومته في العامين الأخيرين، ومن قبل الأسيرات الفلسطينيات اللواتي يلدن وهنّ مقيدات بالأصفاد في سجون الاحتلال. إنّ سبب غضب اللجنة هو أنّ أولمرت وقياداته كانت منشغلة بالفساد الناجم عن مصادرة الأراضي الفلسطينية حيث يثرى هؤلاء على حساب الخراب الاقتصادي الذي يلحقونه بالمزارعين الفلسطينيين، ولكنّ أحداً في اللجنة لا يهمّه أن يتساءل عن الطبيعة العدوانية للاستيطان، بل يتساءلون عن سبب «الإخفاق» الذي أرادوه نجاحاً بغضّ النظر عن الجرائم التي يرتكبونها لتحقيق مثل هذا النجاح. ولا شكّ أن حرق المكتبات، وتدمير المدارس، والمشافي، يُري أنّ المستهدف ليس فقط رجال المقاومة، وإنما هو أيضاً «إرادة وثقافة وفكر وعزم وروح المقاومة في منطقتنا العربية». من هنا، فإنّ شهداء المقاومة في لبنان وفلسطين هم شهداء العرب جميعاً من العراق إلى المغرب لأنهم ضحّوا بدمائهم الزكية من أجل شرف هذه الأمة وكرامتها ومستقبلها. فأعداء الأمة لا يفرّقون على الإطلاق بين عربي وآخر، وعلينا نحن العرب أن نلتزم بهذا المفهوم على الأقل، وهو أننا كلنا سواسية «متشدّدين» أو«معتدلين» في أعين من يستهدفوننا من هؤلاء «المتحضرين» و«الديمقراطيين»! أتوقف عند البعض الذين تبلغ بهم النرجسية حدّ الاعتقاد أنهم «كأشخاص» يكتسبون أهمية خاصة لدى العدو تفوق أهمية الهوية التي يمثلونها، غير مدركين أن العدوّ يستخدمهم إلى حين وحسب، لتحقيق مصالحه ويلقي بهم «في الحفرة»، أو يفرض عليهم «الحصار» حتى الموت عندما ينتهي دورهم. فالمفهوم السليم إذاً هو «أنهم لا يفرّقون بين عربي وآخر»، وأنّهم يحاسبون قادتهم «لإخفاقهم» في إنزال المزيد من القتل والدمار بنا. إنهم يطالبون بوش بالانسحاب لأنه «أخفق» في إخضاع العراق، وفي نشر الحرب الأهلية في لبنان، وفي زعزعة استقرار سورية. ولأنّ بوش «أخفق» فإنه يدعو إلى عقد «مؤتمر دولي» لينقذه من عار «الإخفاق» لأنه، وإدارته، لا يريدون أن يعترفوا بفشلهم ولديهم من العنجهية ما يمنعهم من القبول بدفع ثمن «الإخفاق».

وإذا ما استخدمنا المعيار ذاته لقراءة الدوافع الأمريكية لعقد مؤتمر شرم الشيخ، فإننا نستنتج من دون أدنى شكّ أنّ الإدارة الأمريكية، والتي اتخذت قرار الحرب على بلد عربي لم يهاجم الولايات المتحدة، ولم يعتد عليها يوماً ما، لجأت بمفردها إلى الحرب رغم معارضة المجتمع الدولي لها، أما اليوم فهي تدعو ما تسميه بـ«الأسرة الدولية» لإخراجها من المأزق الدموي في العراق، فترى السياسيين الأمريكيين يغرقون في الحديث عن الحدود، والأمن، والكهرباء، إلخ.. من دون أي ذكر للسبب الحقيقي للمآسي ألا وهو الاحتلال الأمريكي للعراق. وكم أذهلني أن أرى مؤتمراً صحفياً تلو الآخر من دون أن أسمع أسئلة عربية توجّه للسيدة رايس عن تقييمها للجريمة الكبرى التي ارتكبوها بحقّ الملايين من الشعب العراقي، وعن مسؤوليتهم الكاملة عن تعذيب وقتل وتهجير الملايين من المدنيين داخل وخارج العراق. لا بل انصاع الإعلاميون العرب لهذا التشويش المفهوماتي وانخرطوا في مصيدة رايس المفهوماتية وهي تُحمّل العراقيين وجيران العراق مسؤولية ما يجري رغم أنه من الواضح أن الاحتلال الأمريكي للعراق هو سبب كلّ هذه المأساة الدموية التي تمثّل محرقة حقيقية، ولن تنتهي هذه المأساة إلا بجلاء الاحتلال الأمريكي عن العراق، فالإرهاب هو نتيجة الحرب وجاء مع الاحتلال. وفي الوقت ذاته تصدر وزارة الخارجية الأمريكية تقريرها عن الإرهاب معتبرةً حركات المقاومة العربية المكافحة من أجل الحرية والاستقلال في فلسطين ولبنان إرهابا، ومستمرّةً في إنكارها للجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضدّ الشعب الفلسطيني. أي أنّ الإدارة الأمريكية ما زالت في حالة إنكار لما يرتكب من جرائم ضدّ الشعب العربي في المنطقة، ولن تشهد مأساة شعب العراق وشعب فلسطين نهاية إلا بانتهاء الاحتلال الجاثم على صدر الشعبين العربيين. إنّ انعقاد مؤتمر شرم الشيخ ما هو إلا إقرار من الإدارة الأمريكية بفشلها الذريع في إيجاد مخرج لها في العراق، ولكنّ هذا الإقرار لم يصل حدّ الاعتراف بالهزيمة عسكرياً وسياسياً، واستبدال سياسة غطرسة القوّة والعدوان والحصار والعقوبات بسياسة متحضّرة تستند إلى الحوار، واحترام الشرعية الدولية، وحقوق الشعوب وحريّتها، واستقلال بلدانها. إنّ كلّ ما حلّ بالعراق كان نتيجة حرب بوش الهوجاء على هذا البلد العربي الذي كان مستقراً وآمناً قبل أن تجرّ حرب بوش ويلات الاحتلال والإرهاب والقتل والتعذيب للمدنيين العراقيين، أما الديمقراطية فليست الحروب السبيل الوحيد لتحقيقها أبداً.

إنّ القراءة المتأنّية للمشهد الإقليمي اليوم تُري أنّ المقاومة العربية طوال السنين الصعبة الماضية قد غيّرت المشهد الدولي، رغم أنّ إدارة بوش ما تزال لا تدرك أن الحلول لا يمكن أن تكون نتيجة مؤتمرات صحفية تتجاهل الواقع تماماً، وتتحدث عن مفاهيم لا تمتّ بصلة لحياة الشعوب وحريتها ومستقبلها، فقد آن الأوان للجميع أن يركّزوا على المفاهيم التي تعبّر عن الحقائق في المنطقة وأن يبتعدوا عن المفاهيم التي تعبّر عن غطرسة القوة والعدوان، وعن حالة إرضاء الذات والغرور الإمبريالي، وأن يعترفوا بحقّ الشعوب في الحرية من الاحتلال الأجنبي. وأول هذه الحقائق اليوم هي أنّ الشعبين العربيين في فلسطين والعراق يتعرّضان لعقاب جماعي هو في الحقيقة جريمة كبرى ترتكبها إدارة بوش بحقّ إنسانيتهما، ولكن لن يهدأ لهما بال حتى ينالا حريتهما وسيادتهما على أرضهما ومقدراتهما وكل ما عدا ذلك تفاصيل لن يذكرها أحد في الزمن القريب.