الجيش والرئاسة.. وأزمات أخرى

TT

الجمهور التركي معتاد على الدور الفعال الذي يمارسه الجيش في الحياة السياسية. ويشغل الجيش دورا مستقلا في اطار الدولة، ويلعب دورا مهما في القرار السياسي الذي يحدد العمليات والبنى ويتحكم بالسلطة السياسية باعتباره «وصيا» على سلطة الدولة. وفي الحقيقة فان النظام السياسي التركي تتحكم به تراتبية معينة. فسلطة الجيش مستثناة من الهيمنة السياسية، ولكن السلطة السياسية تخضع لإشراف الجيش. و«نظام وصاية الجيش» يعبر على نحو دقيق عن نظام تركيا الذي يعمل بصورة طبيعية. ومع ذلك يمكن أن تكون هناك أوقات تتميز بالتدخل المباشر للجيش في السياسة، حينما يتحول «نظام الوصاية» الى «نظام رعاية». والدافع الرئيسي وراء هذه التدخلات، التي تظهر في المعدل المتوسط كل عشر سنوات، هو حقيقة أن اطار الخطاب الذي يحدده الجيش باعتباره «رأي الدولة الرسمي» يجري تحديه على نحو جدي أو، كما هو الحال الآن، عندما تتجاوز التطورات الاجتماعية والسياسية في الحياة والقضايا السياسية اليومية الحدود التي حددها الجيش، مما يدفع البلاد الى مرحلة حاسمة.

أزمة العسكرة

وفي الأيام الأخيرة وصلت تركيا الى مثل هذه المرحلة الحاسمة. ومن النظرة الأولى يبدو أن السبب الكامن خلف هذه الأزمة هو الانهيار الوشيك للسلطة التنفيذية المزدوجة، أي نموذج الرئيس ورئيس الوزراء، الذي يمثل وفقا للجيش، التمايز بين سلطة الدولة والسلطة السياسية.

ويعتمد هذا النموذج على وجود رئيس مستثنى، باعتباره ممثلا للدولة ككل، من المسؤوليات السياسية، ولكنه مع ذلك يستثمر في القدرات السياسية الهامة بما في ذلك تعيين كبار المسؤولين وأعضاء المحكمة العليا. وعندما أشير الى ان «القصر الرئاسي»، الذي يتحكم بالسياسيين باسم الدولة، سيسلم الى الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، ثارت ضجة سياسية أعقبها تدخل الجيش. وفي بيان له أشار الجيش الى أنه «سينفذ واجباته»، أي سيستولي على السلطة إذا لم تتصرف الحكومة وفقا لمصالح الدولة.

ويمكن أن يصنف هذا التحذير باعتباره «انقلابا من الدرجة الثانية» في التقليد السياسي التركي. وعلى الرغم من أنه لا تستخدم الأسلحة فإن النتائج هي ذاتها. وكان لتحذير الجيش، في الواقع، نتائجه المنشودة. وارتباطا بالنتيجة الإضافية للمحكمة الدستورية التي أخذت التحذير على نحو جدي، أوقفت الانتخابات الرئاسية وقرر البرلمان المضي في الانتخابات العامة.

وفي المرحلة الحالية حاول الجيش حماية دوره السياسي كوصي عبر منع انهيار السلطة التنفيذية المزدوجة مقابل نموذج الإدارة السياسية عبر القسر والتهديد. ومن هنا فإن الأزمة في تركيا اليوم يمكن ان تعرف باعتبارها أزمة إدارة الدولة نفسها.

أزمة العلمانية

غير أن نظرة أعمق تكشف عن أن أزمة الحكم في تركيا تتعايش مع أزمة العلمانية. وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية ظل يتبع النهج السياسي الليبرالي والإصلاحي والمؤيد للاتحاد الأوروبي عبر السنوات الخمس الماضية، فإن عددا من القضايا، مثل الجذور الإسلامية لكوادر الحزب، وحقيقة أن معظم زوجات الوزراء، بمن فيهن زوجة رئيس الوزراء أردوغان، والمرشح للرئاسة عبد الله غول، يرتدين الحجاب، واحتمال سيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطتين التشريعية والتنفيذية، كلها قضايا موضع تقدير من جانب الجيش والجماعات العلمانية حيث يجري الإمساك بالدولة من الداخل.

والسبب الذي يقف وراء التعمق المتسارع لأزمة الحكم، وتشريع تدخل الجيش، وتعبئة الملايين في أنقرة واسطنبول، هو القلق بشأن تركز السلطة في أيدي حزب سياسي يعتبر ممثلوه أشخاصا متدينين. والتناقض الأساسي في تركيا المعاصرة اليوم يمكن أن نجه في التفاعل والتداخل بين هذه التجليات المثيرة للقلق والمخاوف الملزمة للجيش. وحيث ان التدين يرتبط بالديمقراطية يبدو ان العلمانية ترتبط بالعسكرة.

والفكرة القائلة إن القوة الدينية والمحلية تتعدى على النظام المتلاشي للنخب العلمانية الحضرية، لا تعني الأشخاص المتدينين في السياسة التركية فحسب بل هي حول روح التشدد التي تتميز بها العلمانية التركية.

ففي تركيا ما زالت العلمانية المصدر الأساسي للمعيار الرمزي الذي يعرِّف وفقه المواطن الذي يمتلك الحق الكامل؛ وهي تعبّر عن الهيمنة الاقتصادية والثقافية للنواة الاجتماعية. وأولئك الذين لا يتوافقون مع هذا المعيار يتم إقصاؤهم. فعلى سبيل المثال، تحرم الفتيات اللواتي غطاء الرأس يحرمن من التعليم الجامعي، أو يكون الأشخاص المتدينون موضوع تمييز وكأنهم من «السود».

أزمة اجتماعية

أما الجانب الثالث من الأزمة فهو اجتماعي. فتركيا مجتمع غير اندماجي. وخط التمايز الأساسي هو ثقافي. فهناك انفصال مستمر بين النخبة الحضرية والمتغربة التي تمكنت من تدجين الدين والتي تحتل المركز، وهناك المحيط الواسع التقليدي والمحلي ذو التوجه الديني والشرقي.

فإلى حد الثمانينات كان ممكنا تحقيق الاستقرار السياسي والتوازن الاجتماعي، وهذا يعود إلى المسافة الفاصلة بين هاتين المجموعتين.

لكن خلال السنوات الأخيرة اختفت هذه المسافة، مما أدى إلى وقوع النزاعات بينهما. فالمواجهة دفعت المعتدلين والعلمانيين إلى «الدمقرطة» بينما دفعت المجاميع الدينية المتشددة إلى العلمنة، على الرغم من ظهور لحظات حرجة تخص مواضيع من نوع إصدار تشريع يجرّم الخيانة الزوجية أو الحق بارتداء غطاء الرأس، حيث أدى ذلك أحيانا إلى دفع النزاعات إلى الواجهة. ومع تنامي المحيط الاجتماعي وامتلاكه قوة أكبر والتهديد باحتلال المركز، اشتدت النزاعات.

واليوم أصبح الاحتكاك أكبر وسيصبح موضوع الحصول على الرئاسة من طرف فئات المحيط المهمشة، موضوعا للنقمة ورود الفعل من قبل المركز. وبدلا من الرد من خلال تبني الاعتدال، كان رد فعل المركز بتبني سياسية علمانية متشددة ووضع خطوات للاستيلاء على الأجندة السياسية.

وضمن هذا المجال، أصبح الجيش والنظام الواقع تحت وصايته، الأداة الأكثر أهمية للمركز الذي يبدو محبوسا ضمن مخاوفه على نمط حياته. وفي الوقت نفسه أصبح المركز غير المرن، القوة المانحة للشرعية للوصاية العسكرية على الدولة. ومن هذه الزاوية يمكن رؤية الأزمة التركية باعتبارها إشارة إلى الحدود الضيقة للديمقراطية التركية.

أزمة الجمهورية

تحقق التجانس لتركيا المعاصرة على أساس الإسلام. فالأتراك من أصل يوناني كانوا مذعورين وتم طردهم بعد حروب البلقان، والأرمن تم تهجيرهم فبادر المسلمون ليحلوا محلهم بسرعة. كان الإرث العثماني وإلى حد كبير نظاما يسمح بإزالة العناصر غير المسلمة. وكان للجمهورية مشروعان مهمان لغرض توجيه وصياغة هذا الإرث.

المشروع الأول هو «تتريك» الطوائف المسلمة غير التركية التي برزت بأعداد كبيرة من القفقاس والقرم والبلقان وأناضوليا ابتداء من القرن التاسع عشر فصاعدا. وفي البداية كان هؤلاء المهاجرون يشكلون ثلث عدد السكان.

أما المشروع الثاني فهو تحديث وتحويل الإسلام، العنصر الأساسي المكون للهوية القومية، من خلال علمنة صارمة تهدف إلى «تدجين» المسلم. لذلك كان مهما جدا إنشاء إدارة جمهورية مستبدة تحت إشراف الجيش.

فباستثناء الأكراد الذي قاوموا سياسة التتريك مع بعض الجماعات الدينية التي قاومت التدجين الذي جرى بواسطة السياسة «الكمالية»، يمكن القول إن هذين المشروعين نجحا بشكل جزئي.

لكن العناصر التي لم تحقق النجاح هي التي تهز اليوم البلد بأكمله.

فاستمرار وجود الجماعات المسلمة ورفضها رؤية الإسلام بالشكل الذي تقضي به الدولة ـ أي أن يكون مدجنا ـ هو فشل جاد لفكرة تركيا الحديثة. وطالما أن هذه الجماعات «الخطرة وغير المدجنة» مستمرة في التوسع وتزايد قوتها السياسية من خلال الوسائل المشروعة، فإن الجيش والدولة سيفقدان تدريجيا قوتهما.

وأحد الأسباب الأساسية للأزمة الحالية تكمن في هذا الجانب. والمخرج الوحيد المتوفر واضح: إما أن يتم تغيير المشروعين اللذين بنيت عليهما الجمهورية، أو أن يتم تطبيقها عبر وسائل ديمقراطية.

* خدمة «غلوبال فيو بوينت» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»