أي لبنان وأي شرق أوسط يتبلوران بعد شرم الشيخ؟

TT

مؤتمر شرم الشيخ حول العراق، بصرف النظر عن النتائج السريعة أو الطويلة الأمد، وسواء يمكن الكلام عن نجاحات أو فشل، يبقى محطة.

يبقى علامة على طريق تأزم إقليمي، ما زال الإعلام ـ ولنكتف بالإعلام كبداية ـ يتعامل معه باجتهادات قاصرة في أغلب الأحيان، وتمنيات قد لا يكون لها ما يبرّرها في أحيان أخرى.

قيل ويقال لنا إننا أمام «مشروع أميركي» جهنمي لتفتيت المنطقة. وكاتب هذه السطور آخر من يحرص على تبرير السياسات الأميركية الإقليمية، وبالذات، تلك التي تخصّص باجتراحها وتنفيذها «اللوبي الإسرائيلي» من دون أن تكون «المصلحة الأميركية» وفق مفهوم المواطن الأميركي العادي في صلب أولويات هذه السياسات. والأمثلة معروفة ومكرّرة منذ 1948.

ويقال لنا إن الولايات المتحدة أخذت الآن بعد التجربة العراقية «تعقل» و«توازِن» بين «الخطرين الأصوليين» السني والشيعي. وأن الديمقراطيين الذين غسلوا أيديهم من دورهم الساكت سابقاً عن «حرب العراق»، أخذوا يستغلون متاعب الحالة العراقية وتعقيداتها لتوظيفها في حملة الانتخابات الأميركية المقبلة.

وها هي إسرائيل تدخل ما يشبه «أزمة حكم» بعد تقرير «لجنة فينوغراد»، وبالتالي بتنا نسمع أن «انتصار حزب الله» في حرب الصيف الماضي على لبنان تأكد رسمياً، وأدى إلى انكفاء إسرائيلي سيفتح الباب على مصراعيه على مفاوضات لا بد أن تعقد مع جبهة «الممانعة» التي يقال لنا أنها غدت القوة الجبارة القهارة التي نجحت في تركيع «الإمبريالية» الأميركية و«ربيبتها» إسرائيل.

وها هي «الماكينات» السياسية والمالية والعسكرية والإعلامية الإيرانية، تنشط بكل اللغات وكل الوسائل لقطف ثمار «هزيمة» المشروع الأميركي الجهنمي ـ ما غيره ـ، مطمئنة العرب والمسلمين أن لا مشروع هيمنة إيرانياً ولا جدول أعمال شيعياً خفياً قيد التنفيذ في منطقتي الشرق الأدنى والخليج. وهي في معرض سوق الأدلة على ذلك تزعم أن «حزب الله» أحجم عن «استغلال انتصاره» في الساحة الداخلية اللبنانية (!)، وأن الدعم الإيراني يفيد ويقوي قدرات «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في فلسطين حيث لا وجود للشيعة (!).

وأخيراً ... وليس آخراً، نسمع ونقرأ أن القوى الغربية «في مأزق» وهي تتحوّل إلى مواقع الدفاع. فالجمهوريون في أميركا خسروا قبل شهور سيطرتهم على الكونغرس وقد يخسرون الانتخابات الرئاسية القادمة، ورئيس الحكومة البريطانية توني بلير صار في «خبر كان»، والرئيس الفرنسي جاك شيراك المتهم بـ«تلبيس» جريمة قتل رفيق الحريري ودّع قصر الإليزيه. بل ان القوة الإقليمية المسلمة الوحيدة القادرة ـ نظرياً ـ على وضع حد للطموح الإيراني، أي تركيا، تمارس الآن الانتحار السياسي عبر المعركة المفتوحة بين الإسلاميين والعلمانيين.

من كل هذه الحصيلة، يستنتج البعض أن «معركة الشرق الأوسط» حُسمت لمصلحة المعسكر «الممانع» … ومني الغرب بهزيمة مذلة.

هذا، على الأقل، ما يستشفّ لبنانياً من قراءة أدبيات «الممانعة»، ومن مواقف «حزب الله» وحلفائه وطواقمه الإعلامية المحلية والخارجية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ومن دون الخوض في جدل صبياني عقيم، اقترح قبل أيام أحد وزيري «الحزب» المستقيلين أن يكون الجنرال ميشال عون «مرشحاً توافقياً» لرئاسة الجمهورية في لبنان!

ميشال عون، حليف «الحزب» ... «مرشح توافق»؟!

توافق مع مَن؟ … وبشروط مَن؟ … وفي ظل أي نظام سياسي؟

وإذا تحوّل عون بقدرة قادر إلى «مرشح توافق» … فكيف إذاً يعرّف الوزير المحترم «مرشح المواجهة والتحدي»؟

على أي حال، السيد حسن نصر الله كان له في أحد خطاباته الأخيرة موقف يعكس التفكير ذاته عندما قال ان الحزب سينتظر وسيبقي الأوضاع على حالها، ولكن بعد سنتين سيأتي خصومه صاغرين يتوسّلونه القبول بما يرفضونه اليوم. وطبعاً، لم يفت السيد نصر الله خلال الأسبوع الماضي الاستشهاد بـ«تقرير فينوغراد» لتذكير اللبنانيين بأن «الحزب» انتصر في حرب صيف 2006، وتثمين هذا الاعتراف من العدو.

ما أتصوّره هو أن من حق «الحزب» اعتبار نفسه منتصراً … مع ان القيادة الإسرائيلية واجهته من دون استراتيجية حقيقية (كما ورد في «تقرير فينوغراد»)، وبالتالي، ما كان مستغرباً أن تفشل إسرائيل في تحقيق أهدافها إذا لم يكن لديها استراتيجية!

ومن حقه اعتبار نفسه منتصراً عندما أصبح هو دعامة نفوذ الحكم السوري في لبنان، وليس العكس. ولكن، من ناحية أخرى، ينبغي الإقرار بأنه ما لم تحسم واشنطن جدلها النووي مع طهران، التي يشكل «الحزب» امتدادها العقائدي والجبهوي … فإنه سيعزز مواقعه ـ على الأقل ـ على الساحة اللبنانية، وسط ارتباك خصومه، وتشتّت الشارع المسيحي الذي لم يدرك حتى الآن أنه بسبب «ظاهرة ميشال عون» … سائر نحو الانتحار.

أمر آخر، جدير بالتمعّن، هو ما يمكن أن تحمله التغييرات في إسرائيل وبعض العواصم الأوروبية مثل باريس ولندن خلال الأيام والأسابيع المقبلة.

فاللاعب الأقوى إسرائيلياً قد يكون اليمين … مجدداً. وإذ ذاك علينا أن نتساءل كيف سيعبّر التقاطع الواقعي القائم بين المصالح الإسرائيلية والسورية والإيرانية عن نفسه؟ وعلى حساب مَن؟

نحن نتذكر أن الدفاتر القديمة التي أعدت لبنيامين نتنياهو قبل عام 2000 تضمنت النصح بتغيير أنظمة في المنطقة العربية. وعليه سيكون مهماً، كيف ستتصرف النسخة الجديدة من اليمين إزاء الواقع الراهن.

فرنسا وبريطانيا أيضاً مقبلتان على عهدين جديدين، إن لم يحملا تبدلاً جوهرياً في السياسة فهما سيحملان تغيراً أكيداً في الأسلوب. أما بالنسبة لأميركا، وما أدراك ما أميركا، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت ستخوض انتخاباتها الرئاسية المقبلة بينما الملف النووي الإيراني محجوب … بسحب دخان الدمار العراقي. هذه مجازفة كبرى، مع أن الأسوأ هو إما المجازفة بحرب «مسلوقة» على غرار حروب إيهود أولمرت وعمير بيرتس ودان حالوتس، أو المراهنة على التعايش مع وسيط إقليمي لديه مشروع تناقضي مع ذاته.