العلمانية التركية والمأزق السياسي الراهن

TT

شهدت تركيا مؤخرا هزة جديدة تشبه الهزات المتتالية التي عرفها النموذج التركي منذ قيام الجمهورية العلمانية عام 1924.

صحيح أن الجيش هذه المرة اكتفى بالتهديد والوعيد ولم يتدخل لتعطيل المؤسسات الدستورية، كما كان الشأن في مرات سابقة (1960، 1971، 1980، 1998) ولكن البلاد دخلت فعلا في أزمة حادة بعد انهيار الائتلاف الهش بين الحزب المحافظ المعتدل المتفرع من التيار الإسلامي (حزب العدالة والتنمية) والمؤسسة العسكرية التي هي القوة الضامنة للهوية العلمانية للدولة.

وقد حفظ هذا الائتلاف طيلة السنوات الأربع الأخيرة حدا واسعا من الاستقرار للبلاد كما حقق لها نموا اقتصاديا ملموسا، وجنبها الآثار السلبية للهزات العنيفة التي عرفتها المنطقة بعد حرب العراق الأخيرة.

وبدا جلياً لمتابعي الشأن التركي أن النموذج العلماني التركي وصل لمرحلة النضج، فلم يعد مهددا من الاتجاهات الإسلامية الرافضة لشرعيته، بعد أن أخفق حزب الرفاه في تجربة الحكم القصيرة وخلفه جناحه المعتدل الذي تحول إلى نمط من الحزب اليميني المحافظ على غرار الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا.

كما أن المؤسسة العسكرية ذاتها أصبحت أكثر واقعية في قبولها للون إسلامي معتدل كجزء ثابت من الطيف السياسي، بعد أن جربت المواجهة العقيمة مع المجموعات الرافعة للشعار الإسلامي.

والمفارقة القائمة هنا هي أن الديمقراطية التركية التي تأسست إيديولوجيا على المنظور العلماني، أصبحت بحاجة إلى احتواء بعض شططها الإيديولوجي لاستيعاب التيار الإسلامي المحافظ الذي يشكل القوة الأولى في الشارع التركي (34% من مقاعد البرلماني الحالي) في الوقت الذي لا يمكن لهذا التيار الاستفادة الكاملة من شرعيته الديمقراطية في مركز القرار الذي تستأثر بجانب وافر منه القوى الضامنة للنهج العلماني المدعوة بالدولة التركية العميقة وهي الجيش، الدبلوماسية الشرطة والقضاء والمؤسسة الجامعية.

هل تعني هذه الأزمة الداخلية أن التوازنات التي حفظت للنموذج التركي بعض الاستقرار في السنوات الأخيرة قد انهارت وأن البلاد سائرة في طريق صدام علني مفتوح بين التيار الوريث للحركة الإسلامية والمؤسسة العسكرية والأجنحة العلمانية الموالية لها؟

ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال، بيد أن كل المؤشرات توحي بأن هذا الصدام ليس مشهدا حتميا، فالمؤسسة العسكرية لم تعد قادرة على التدخل المباشر ضد الشرعية الديمقراطية، لأسباب داخلية ودولية واضحة في مقدمتها الموقف الأوروبي الضاغط، الحساس تجاه أي انقلاب على الوضع الدستوري.

ولعل النجاح الدبلوماسي الأكبر الذي حققته حكومة أرودغان هو بروزها كالطرف الأكثر دفاعا عن هوية تركيا الأوروبية، على الرغم من أن وصوله للسلطة عزز مخاوف الاتجاهات المعادية لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي من تصدير مآسي الشرق الإسلامي إلى القارة القديمة.

ويسود الآن اعتقاد واسع لدى الباحثين في الشأن التركي، ان المجتمع التركي حقق بالفعل توازنا حقيقيا بين الهوية العلمانية للدولة وانتمائها الحضاري بعد فشل السياسات التغريبية القمعية التي أرادت فرض انسلاخ البلاد من جذورها الدينية والثقافية. فقد جرت في السنوات الأخيرة مراجعة النظم والتشريعات الخاصة بالمؤسسات الدينية وتدريس المواد الإسلامية في اتجاه تطبيقها المرن الذي يراعي اختيارات المجتمع الأهلي، كما أصبحت النخبة السياسية التركية واعية بضرورة تنويع خياراتها الاستراتيجية بالانفتاح على المنظومة الإسلامية، بعد أن أصبح من الواضح أن مشروع الانضمام للاتحاد الأوربي يصطدم بعوائق حقيقية تجعله غير متاح في المدى المنظور.

كما أن الجيل الجديد من الإسلاميين الأتراك لا يشكل امتدادا لسلفه، بل أرسى قطيعة فعلية مع خطاب حزب الرفاه الذي أسسه نجم الدين أربكان في الستينات. ومن المعروف أن هذا الخطاب لم يكن بعيدا عن فكر الحركات الإسلامية العربية وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين المصرية على الرغم من خصوصيات الوضع التركي وضرورات التأقلم مع النظام العلماني. فالخطاب الفكري والسياسي لحزب العدالة والتنمية يستوعب بسلاسة الرؤية العلمانية، يستند للإسلام مرجعية حضارية وقيمية دون أن يبني عليه شرعية سياسية. وتشير استطلاعات الرأي المنشورة الى أن نصف النساء المنتميات للحزب غير متحجبات وأن الأغلبية الساحقة من أعضائه لم يتلقوا تكوينا دينيا وانما استمالهم الحزب بسياساته الاجتماعية وتجربته الناجحة في إدارة الشؤون البلدية للعديد من كبريات المدن بما فيها اسطنبول.

كان توركت اوزال الزعيم السياسي البارز الذي ترأس تركيا من 1989ـ 1993 يقول: «لقد آن لتركيا أن تخرج من حربها المقدسة من أجل فرض العلمانية على المجتمع إلى مصالحة العلمانية مع المجتمع، مع ما تقتضيه هذه المصالحة من تضحيات هي ثمن الاستقرار السياسي والسلم الأهلي». فهل تحققت هذه المصالحة في عهد أردوغان وهل أردوغان ذاته مستعد لدفع مستحقاته من الصفقة؟