15 مايو: حقيقة التآمر.. زائد (مقصلة) لحقوق الإنسان

TT

في الأيام القريبة الماضية: مرت ذكرى المحرقة اليهودية أو (الهلوكوست)، وهي ذكرى تتجدد كل عام، بل ربما كل أسبوع من خلال عمل ثقافي أو إعلامي أو سياسي: ذي مناسبة طبيعية أو مفتعلة.

هذا (التثبيت للذاكرة) على الهلوكوست، أو التنشيط المستمر لها تجاهها هو الذي أبقى على هذه (المأساة) حيّة في أذهان اليهود، بَلْهُ في أذهان العالم.

والسؤال هو: لماذا (الاستثناء في المآسي)؟.. لماذا يتكثف الدعي ويتجدد على المحرقة اليهودية، في حين يغيب عن مآسٍ أخرى: كبرى أيضاً؟

لماذا؟.. لماذا؟.. لماذا؟!!

وراء هذا التعاون أو الانتقاء: (نزعة عنصرية): تضخم تلمع مأساة قوم، وتصغر وتعتم – في الوقت نفسه – على مآسي قوم آخرين؟.. أم هل وراء ذلك يقظة جماعة الهلوكوست، وغفلة غيرهم ممن ضعف احساسهم أو مات بازاء مآسيهم ومصائبهم وكوارثهم؟

بعد 72 ساعة تحل ذكرى (المأساة التاريخية والإنسانية والسياسية والجغرافية) التي نزلت بشعب كامل هو الشعب الفلسطيني. ففي 15 مايو الجاري: تحل ذكرى تشريد الشعب الفلسطيني من وطنه.

وهي ـ بلا شك ـ (أكبر وأقسى جريمة) شهدها القرن العشرون.

فلئن سأل سائل: اليوم أو بعد عقود من الزمن: ما هي أضخم وأظلم جرائم القرن العشرين؟

أهي جريمة الاستعمار الذي اجتاح معظم بلدان العالم؟. قيل: هذه جريمة، ولكنها ـ على الرغم من بشاعتها ومرارتها ـ قد زالت بزوال الاستعمار إذ بقيت البلدان التي كانت مستعمرة: لأصحابها الحقيقيين.. أم هي جريمة الجنون النازي والفاشي الذي تسبب في اندلاع أكبر وأفظع حرب عرفها التاريخ البشري؟.. قيل ـ جوابا عن هذا السؤال ـ: هذه جريمة عظمى ـ بكل المقاييس ـ، بيد أن مسعريها عوقبوا ـ في هذه الحياة الدنيا ـ عقابا أليما من جنس عملهم، إذ ضربوا بحرب مضادة طحنتهم طحنا، ومزقتهم كل ممزق. فالنازي انتحر بعد هزيمة ماحقة، والفاشي أعدم: بعد هزيمة ماحقة كذلك، ثم عادت الأمور الى سياقها الطبيعي حيث أعيد ترسيم الحدود التي اجتازها النازي ومحاها محواً: طمعا في التوسع والضم.. أم هي جريمة قصف ناجازاكي وهيروشيما اليابانيتين بالقنابل الذرية الأمريكية؟.. قيل ـ جوابا عن هذا السؤال ـ: هذه جريمة كبرى ـ غير مسبوقة في التاريخ الإنساني ـ، لكن اليابانيين ظلوا موجودين في وطنهم، واستطاعوا أن يخرجوا من تحت الانقاض والحطام، وأن يستأنفوا حياتهم ونهضتهم.

أم هي جريمة (السطو الصهيوني) على فلسطين: باحتلالها، وتشريد أهلها، والاستيلاء على بيوتهم ومزارعهم ومدارسهم ومصانعهم ودكاكينهم الخ الخ؟

لئن سأل سائل: اليوم أو بعد عقود، هذا السؤال، فإن الجواب الموضوعي الواقعي القاطع هو: نعم.. هذه هي (جريمة القرن العشرين). القرن العشرين

أولا: هي جريمة لأنها ظلم تام: بالمعنى القانوني والسياسي والأخلاقي والإنساني والتاريخي والجغرافي.

ثانيا: هي جريمة القرن العشرين، لأنها لا تزال ـ حتى الآن ـ تشخّص الاحتلال والظلم والقهر والاذلال والتشريد والحصار والقتل والاغتيال.

نعم.. هي (جريمة القرن العشرين) لأنها جريمة لا تزال (مفتوحة)، ولان المجرم الفاعل لا يزال متلبساً بها، ولا يبرح يزيد حجمها، ويوسع رقعتها بـ(المستوطنات) وبالاصرار على البقاء في ما احتله عام 1967م.

نعم.. هذه (جريمة القرن العشرين)، لأن ضحاياها (الشعب الفلسطيني) لا يزالون مشردين بالملايين: هنا..

وهناك.. وهنالك.

وعند هذه النقطة: ننعطف بالسياق الى محورين رئيسين:

أ ـ محور: التواطؤ الدولي على هذه الجريمة.

ب ـ ومحور ابتذال واغتيال شعار (حقوق الانسان).

1 ـ على الرغم من ان اختيارنا الفكري والسياسي والمنهجي هو:

(التفسير الموضوعي) للتاريخ والاحداث والوقائع والمواقف، فإننا لا نستطيع ان نغمض العينين عن (يد التآمر) في جريمة القرن العشرين هذه ولا سيما ان ثمة وقائع عديدة تثبت هذا التآمر:

أ ـ عام 1917 اصدر بلفور بيانه الظلوم الذي يحمل وعداً لليهود باقامة وطن قومي لهم في فلسطين.

ب ـ تقول حقائق التاريخ السياسي. في عام 1916 (أي العام الذي سبق وعد بلفور): أبرم اتفاق بين وزارة الحرب البريطانية وبين المنظمة الصهيونية.. خلاصة هذا الاتفاق هي: ان تبذل المنظمة الصهيونية جهدها ونفوذها من اجل جر الولايات المتحدة الى الحرب العالمية الاولى. فقد كانت بريطانيا تريد وتخطط لانزال الهزيمة بالمانيا، ولكن ثبت لديها ان هذا الهدف لن يتحقق إلا إذا دخلت امريكا الحرب.. هذا هو الهدف البريطاني من الاتفاق الخبيث.. أما الهدف الصهيوني فهو ان تعطي بريطانيا اليهود وعدا باقامة وطن لهم في فلسطين.. وقد كان.. ولتوثيق هذه الحقيقة، يمكن الاطلاع ـ مثلا ـ على كتاب (كيف يصنع الدبلوماسيون الحرب) الذي ألفه النائب البريطاني الاسبق (المعاصر لتلك الحرب): فرانسيس نيلسون.. يقول نيلسون في كتابه هذا: «دخلت الولايات المتحدة هذه الحرب، وحشدت لها 4 ملايين و734 و991 رجلا، قتل منهم 115 ألفا و516 رجلا، واصيب بجروح وعاهات دائمة 202 الف ورجلان. وكان مسوغ دخول الحرب دعوى: ان الالمان اغرقوا السفينة الامريكية (ساسكس) في القناة الانجليزية. وقد تبين من بعد بالوثائق والمشاهدات: ان اغراق السفينة كان (كذبة) محضة اختلقها صهيوني نافذ واقنع بها الرئيس الامريكي نيلسون يومئذ عن طريق عملية ابتزاز هائلة. والحقيقة القاطعة هي: انه لم تكن هناك سفينة امريكية اغرقت، ولم يمت بالتالي جندي امريكي واحد.. والحقيقة القاطعة كذلك: ان ما هو متوافر في محفوظات بريطانيا عن اسرار الحرب العالمية الاولى يؤكد على ان يهود وزارة الحرب البريطانية هم الذين ابرقوا الى ابناء ملتهم في وزارة الدفاع الامريكية بشأن اغراق السفينة الامريكية (ساسكس) في القناة الانجليزية».

ج ـ في مؤتمر (يالطا) عام 1945، وهو مؤتمر جمع رؤساء الاتحاد السوفيتي ـ سابقا ـ وبريطانيا العظمى يومئذ، والولايات المتحدة الامريكية.. في هذا المؤتمر: ائتلف النقيضان وتناغم الضدان.. فقد قال تشرشل: «اريد ان أبدأ كلامي بأن اعلن في بداية الأمر انني صهيوني. أؤمن بأن من حق اليهود ان يكون لهم وطن قومي، وان تكون لهم دولة يهودية».. والمفاجأة الصاعقة: ان قال ستالين كلاما مماثلا!!!.

د ـ يقول جواهر لال نهرو في كتاب: لمحات من التاريخ: «وعندما غزت الجيوش البريطانية فلسطين في الحرب العالمية الاولى ودخلت القدس، اعلنت الحكومة البريطانية وعد بلفور الذي قطعته في نوفمبر 1917. وقد نص هذا الوعد على انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد قصدت الحكومة البريطانية بهذا الوعد كسب صداقة اليهود العالمية».

2 ـ المحور الثاني الرئيس ـ الذي يلي محور التآمر الدولي على الفلسطينيين وقضيتهم ـ هو: ابتذال واغتيال مصطلح أو شعار (حقوق الانسان): اغتيال هذه المبادئ الشريفة على يد (الغربيين) أو على يد (ساستهم): بتعبير أعدل وأدق.

ففي ظل هذا التواطؤ الرهيب ـ تاريخا وحاضرا ـ على القضية الفلسطينية: تجب اعادة النظر ـ بعمق وجد ـ في معايير تقويم الحضارة الغربية. وذلك من اجل التفريق المنهجي والعادل بين التقدم العلمي والاداري في الغرب وبين السلوك السياسي والانساني والاخلاقي لديهم. فغير عاقل او غير أمين، من ينكر التقدم العلمي والصناعي والاداري الذي انجزته وتفوقت فيه: الحضارة الغربية.. في الوقت نفسه: غير عاقل وغير أمين من يزعم ان الغرب قد احرز التقدم نفسه في السلوك السياسي والاخلاقي والحقوقي (تجاه الغير).

والكلام يطول جدا: اذا استقصينا ملف هذا السلوك.. حسبنا الآن: ملف القضية الفلسطينية المثقل بمظالم الغرب لها: ابتداء.. ومسارا.. وحالا.. ولئن قيل: ان انتهاك حقوق الانسان الفلسطيني كان تاريخا ثم انتهى، قلنا: ان هذا الانتهاك لا يزال مستمرا.

ان ساسة الغرب يقودون ـ بلا خلق ولا ضمير ولا ذرة واحدة من عدالة تقتضيها حقوق الانسان ـ: يقودون سياسة (الحصار الوحشي) على الشعب الفلسطيني، وهو حصار حرم الشعب الفلسطيني من اساسيات الحياة: في الغذاء والدواء والتعليم والماء والكهرباء الخ.. ولو استطاعوا ان يحرموا الشعب الفلسطيني من (اكسوجين) حركة التنفس لفعلوا!!

ومن المفارقات: ان هؤلاء الساسة لا يملون من ترديد انهم (قلقون) مما يجري في الصومال.. ودارفور.. ومن المصائر المحزنة لدب القطب الجنوبي!!، ولكنهم لا يبدون (قلقا) على الشعب الفلسطيني الذي تسببوا هم انفسهم في مأساته: ابتداء.. ومسارا.. وحالا.

ما معنى.. ما قيمة.. ما جدوى التغني الفارغ بحقوق الانسان، في ظل هذا الظلم الغربي الممنهج والمبرمج وطويل الأمد للشعب الفلسطيني؟.

حفاظا على (قدسية) حقوق الانسان وعلى جلالها ومكانتها، ينبغي ان يكف ساسة الغرب عن (الطنطنة) بها. ذلك ان (مقصلة) المبادئ والقيم هي: التغني بها: كلاما وشعارا.. واغتيالها فعلا وسلوكا، من هنا كان المسيح ابن مريم صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يدين الانفصال والتناقض بين القول الجميل والسلوك القبيح، كثيرا ما كان يقول: «ويل للمرائين الذين هم كالقبور المجصصة، ظاهرها جميل وباطنها عظام نخرة».

ان كل طاغية جبار يلوح بشعار حقوق الانسان: في هذه الضيعة او تلك. ومن يتدبر التاريخ السياسي والفلسفي والاجتماعي والاخلاقي للبشرية، يعلم: ان الحجة الاساس للجاحدين للمثل العليا، الساخرين منها هي: ان السمو امر غير مستطاع، وان المبادئ العظيمة: شطحات خيال ليس من الممكن مباشرتها في ارض الواقع.. ومما لا ريب فيه: ان ابتذال حقوق الانسان على يد ساسة الغرب، في قضية فلسطين بوجه خاص ـ: يرفد حجة الكافرين بالمثل العليا بمزيد من القوة والوجاهة، سواء كان هؤلاء الكافرون فوضويين أو ارهابيين أو مستبدين.