في الذكرى الرابعة لـ12مايو.. عن أي قاعدة نتحدث

TT

مع ارتفاع منسوب مياه الإرهاب الآسنة يتم تكرار الحديث المجاني وبشكل ممل عن إدانة القاعدة وأنها أخطأت كثيراً في استهدافها للمملكة وأن الأولى أن تتركز جهودها على قتال الصليبيين، هذا ما يتم تداوله عقب أحداث الإرهاب الدامية أو حتى العمليات الاستباقية لقوات الأمن التي أخذت تسطر نجاحاتها عبر الكثير من التضحيات والجهود التي تفتقر إلى سندها الثقافي والاجتماعي.

لنفكر هذه المرة خارج الصندوق كما يقال، فتنظيم القاعدة يظل في النهاية كيانا فوضويا لا يمكن التنبؤ بما يفعله، نظراً لأنه يرفع شعار حرب الجميع ضد الجميع بكل ما فيه من عبثية، فأفراد قليلون مستعدون لهدر أرواحهم قد يرتكبون كوارث بحق الآخرين .. لذا فإن المشكلة الحقيقية تكمن في ما يمكن تسميته «قاعدة التبرير» أكثر من «قاعدة التفجير» الذين باعوا أنفسهم وحياتهم وسخروها لخدمة أهداف التنظيم الكارثية عبر منظومة طويلة ومعقدة من التجنيد والأدلجة و«العزلة الشعورية» عن الواقع.

«قاعدة التبرير» تحاول تسييس فكر القاعدة لمصالحها الخاصة وذلك عبر إخراجه من صيغه العقائدية والأيدلوجية إلى تصويره في هيئة الضحية التي استجابت لظروف الواقع القاسية، فهم مجرد شبان صغار يائسين يريدون إصلاح حال الأمة لكنهم أخطأوا الطريق، وأنهم لم يأتوا إلا من قبل استفزاز «العلمانيين / الليبراليين» لهم أو من تفشي المنكرات أو غياب العدالة عن قضايا الأمة المصيرية أو الملاحقة الأمنية .. وربما كانت آخر الصرعات التبريرية أن كثيراً منهم تحول فجأة إلى تبني أفكار القاعدة لأنه لم يتم استيعابهم واحتواؤهم عقب تجاربهم المبكرة في التطرف أو القتال في مناطق التوتر التي يزدهر فيها وجود معسكرات التدريب القاعدية .

في مجلة صوت الجهاد الذراع الإعلامي لما سمي تنظيم القاعدة في جزيرة العرب عدد (14/ص30) يستنكر التنظيم كل هذه الأسباب لأنه بدأ الإعداد له من وجهة نظرهم منذ عشرات السنوات ويضيف مستنكراً: «من العجيب تصور من يتصور ان المجاهدين قاموا بذلك بعد ان ضيق عليهم من قبل الحكومة، فلماذا سلكوا طريق الجهاد في الأصل قبل ان ينالهم اي تضييق؟ أليست طريق الجهاد هي طريق القرح والضراء والخوف والجوع وزلزلة الأقدام وبلوغ القلوب والحناجر؟ ، كلا بل هو منهاج واضح يدعون اليه ويبينونه للناس منذ سنوات عديدة، لو تأمل المتسائل لوجد ان شريحة واسعة من هؤلاء المجاهدين الذين طُلبوا خلال هذه الفترة كانوا في الأصل بعيدين عن أعين الدولة، ونسبة من هؤلاء لم يخرجوا الى الجهاد في العراق او الشيشان او البوسنة او غيرها من قبل، بل الدولة تجهل اي علاقة لهم وصلة بالجهاد»

إذن هي عملية استهداف للمملكة منذ وقت طويل وليس كما يدعيه دهاقنة «قاعدة التبرير» الذين يحاولون ترحيل المشكلة الحقيقية إلى أزمات مفتعلة مع تيارات فكرية أخذت على عاتقها تعرية تلك الازدواجية في التعامل مع القضايا الوطنية الكبرى حينما تستجلب كل الطاقات لاستنكار فعالية ثقافية هنا أو مسألة اجتهادية معاصرة هناك بينما تغص الحناجر وترتعش الأنامل عن قول يسمن من اعتدال أو يغني من وسطية حول مفاهيم التطرف التي تستلهم «قاعدة التفجير» منها وقود معاركها.

إيقاع العمليات الاستباقية المتسارع في وتيرة نجاحه يجب ألا يعطينا الأمل بأن قصة الإرهاب تسدل آخر فصولها ومهما قيل عن حالة النفور العامة التي بدأت تتفشى في شرائح متعددة من المجتمع السعودي حول كل ما يمت للتطرف والإرهاب بصلة؛ فالأهم من وجهة نظري خلق المناعة ضد أفكار «قاعدة التبرير» التي ما زالت تغالط وتسمى الأشياء بغير أسمائها اعتماداً على إرهابها الفكري الذي تمارسه عبر فزاعة «هدم الثوابت» أو محاربة تيارات التغريب والحفاظ على الهوية ... الى أخر تلك الأوهام الكبيرة.

إن المشكلة الحقيقية التي هيأت للإرهاب أن يتعملق ويصبح واقعاً معيشاً بعد أن كان فكرة منبوذة هو ذلك التشابه الكبير بين المنظومة الفكرية لكثير من المبررين للقاعدة والمعتذرين لها وبين منظري القاعدة من الذين باتوا يتأولون لأولئك أمام الشبان الصغار بأنهم لا يستطيعون تأييد القاعدة صراحة بسبب الخوف أو رعاية المصلحة وكأن ثمة أدوارا تكاملية وهو الأمر الذي يفسر ذلك التحول السريع بين معسكر الفريقين، ومهما قيل عن تراجعات وخطاب جديد داخل تيار عريض من المتعاطفين مع القاعدة ـ وهذا ولا شك يجب تثمينه بشكل عام ـ إلا أن التحولات الكبرى على مستوى (العقل الجمعي) للقاعدة والذي تشكل عبر سنوات طويلة بحاجة إلى استراتيجيات ثقافية بديلة طويلة المدى وليس مجرد استتابة عارضة .

المعركة الحقيقة اليوم هي معركة الإسلام المعتدل.. إسلام ما قبل حركات الإسلام السياسي وما انشق عنه من تيارات وجماعات متناحرة فيما بينها يكفّر بعضها بعضاً، ودون استعادة هذا الإسلام المختطف بكل تسامحه وتعدديته وواقعيته سنكون كمن يطوف بين النتيجة والسبب.

[email protected]