في ذكرى تفجير المجمعات السكنية بالسعودية!

TT

بليت السعودية بسلسلة من الحوادث الإرهابية بدأت بتفجير مجمعات سكنية في مدينة الرياض بتاريخ أسود يوافق موعد نشر هذا المقال، ولكن لأربع سنوات مضت، أي في 12/5/2003، ثم ما تبعها من حوادث إرهاب أخرى أعلنت معها حالة استنفار مجتمعي وحكومي تتساءل وتدافع في آن، وبهذه المناسبة وبمقابلة بعض ممن عاصروا تلك الأحداث، وهم اليوم على مشارف سنوات الشباب الغض، وللإجابة على السؤال: كيف يمكن لإنسان ما أن يصبح في لحظة إرهابياً؟ وجد أن أغلب من سئل لا يملك رؤى محددة لما حصل، بل كان من الملاحظ أن هناك خللا جليا في تكوين الهوية يصاحبه عدم ثقة في التمييز بين السلوك السوي وغير السوي، دع عنك، قلة الوعي وأسلوب التعاطي السطحي مع التحولات والأفكار.

وبناء عليه، قررت أن أحصر حديثي بالدور الإعلامي والنفسي في تفاقم البلاء الإرهابي، فالمعالجة الإعلامية غالباً ما تخرج بانفعالها عن التحليل العلمي الدقيق، فلا تتحرز مثلاً في ضبط مصطلحات كالغلو، والتطرف، أو حتى التحقق من مصادرها كمسمى الأصولية الذي هو ظاهرة مسيحية الأصل وبالذات بروتستانتية غير كاثوليكية، فضلاً عن الدور الذي يلعبه الإعلام في تضخيم شريحة المتأسلمين، فما يستقر في النفوس نتيجة الاستفاضة في الكلام عنهم، قد يصل بالشاب إلى الاعتقاد بأن بن لادن وأفواج قاعدته قدوة تحتذى، فنحن حين نتابع أحداث فيلم يكون الأبطال فيه هم الأشرار المطاردون، ثم يظهر لنا رجال الأمن في لقطات سريعة ليلقوا القبض عليهم، فهل سنتوجه بعواطفنا إلى الخارجين عن القانون أم إلى من لاحقهم!! للإجابة نقول: مع من انشغلنا بمتابعتهم على شقاوتهم، فالمسألة يتدخل فيها العامل النفسي فيلغي معه المنطق واختياره، وكذا الأمر إذا انتقلنا إلى مناظر قتل النساء والولدان والشيوخ في فلسطين أو العراق أو ...، فمع تكرار الصيغ الدموية تندلع الأحقاد ضد الغرب وأهله ومنتجاته وما يمت له بصلة، وخاصة بين البسطاء الذين لا يملكون من القدر الثقافي أو التعليمي غير تعاطفهم الذي لا يسلم من التزمّت، ولا يبقى من الصور المرئية سوى المطبوعة في الذهن لمنظر الرصاص الموجه إلى الإسلام.

ولا ننسى حكاية حجب المعلومات، فقد يكون القائم على الوسيلة الإعلامية معارضاً للوجهة المقابلة، فيسمح بتمرير آراء الخصوم، أو يعمد إلى الضبط الانتقائي مما يؤلب أصحاب النظرة الأخرى، ولو أعطي لكل من الأطراف مساحة للتعبير، فلربما كان فيه تخفيف من شحنة مكبوتة، بشكل منضبط ... وفي الوقت عينه إيضاح خواء بعض العقول، دون أن تصبح وسائل الإعلام منابر للآراء المغالية في العلن وبالمجان، وإلاّ سنكون كمن أراد الارتقاء بالصرح فهدمه، إنما المقصود أن يواجه المتأسلمون بمن لهم القدرة على مواجهتهم وأمام الملأ، بدلاً من حشو الانترنت والمطويات والمدونات بكل غث موظّف، فمن المهم التعرف على الوقائع والمناهج بصورتها وأحجامها بغير ابتسار أو تلوين.

وهنا يأتي دور الموضوعية، ونخص بها الفضائيات حيث اعتنائها بوتيرة الإثارة إما لأغراض مادية، أو للسيطرة على أفكار الآخرين أو تحويلها، مما يدفع بالتركيز إلى القضايا الساخنة للمزيد من الاستقطاب على حساب الوقت الكافي والمعالجة المحايدة لمواضيع ثانية أكثر أهمية ولكن أقل إشعاعاً، إنها الفضائيات التي ما أن تنتهي من الحديث عن الدين وسوء تقديره، حتى تنتقل إلى عرض آخر يعب بالتجاوزات الشرعية «المستفزة»، في مشاهد تحط من قيمة النساء في أزيائهن أو صورة أغانيهن، أو التقليد الأعمى لبرامج غربية ونقلها إلى العربية دون إضافة تعديلات تتناسب ومجتمعاتنا، فيزداد اللغو والبلبلة، ويرتبك الناس بين مؤيد ومعارض، وبين لا مبال ومتدين مغال، لا يستبعد بعد فترة أن يتحول بغلوه إلى التحرك العملي، سواء بالتنظير والهجوم الفكري، أو باستخدام السلاح وتكفير المجتمع بما فيه، فالإسفاف الإعلامي دائماً ما يكون ورقة رابحة في أيدي المؤلبين وأصحاب التنظيمات الحركية، يلوحون بها عند تجنيدهم لأعضاء جدد، أو للتدليل على مبررات لعنفهم.

تتشكل نفسية الإنسان بحسب التربية والظروف التي يتعرض لها، وقد تكون القابلية والاستعداد النفسي لدى البعض أكثر ميلاً للاعوجاج من غيرهم، إلاّ أنه لو هيئت لشخصية كهذه بيئة معقولة، فستساهم على الأقل في إبعاد صاحبها عن شبح الانحراف، حتى وإن لم توفق في جعله ناجحاً بالمعنى الاجتماعي المتعارف عليه، فالمهم ألا تخلق منه مجرماً، أما المحاكاة والإيحاء فهما من العوامل الرئيسية في بناء خلق متوازن، فما يقتبسه الطفل في سنوات عمره الأولى يكون من خلال محاكاته لوالديه ومعلميه ونحوهما، وكذا مع الإيحاء الذي يتقبله الطفل من الكبار والمحيطين به، وحيث أن النشاط الإرهابي عملية معقدة ومتشعبة، فيجب توخي الحذر في إطلاق نظريات عامة للربط بين علوم النفس والإرهاب من جهة، وبين التغيرات السياسية والاقتصادية ـ الاجتماعية من جهة أخرى، وعلى كل، وجد من واقع الدراسات أن هناك بعضا من خصائص مشتركة تميز المنخرطين في الأعمال الإرهابية، وتجتمع في التناقض الوجداني والفكري تجاه السلطة، وعدم القدرة على الاستبصار الذاتي أو تكوين رأي نقدي (قد تلتصق بميل عام نحو الخضوع) وهذه بالذات يلازمها تخبط في تحديد الهوية، ووجود مراحل من الشك وعدم اليقين لكثير من المفاهيم، أما الاعتقاد بالسحر والأفكار الشاذة، والفقدان العاطفي لتجارب تراكمية، فقد يتجه بصاحبه إلى تدمير ذاته داخلياً وخارجياً، وخاصة إذا توفرت له الأدوات المساعدة إن في قدر التعليم الضئيل الذي حصله، أو في استيعابه للأسلحة كأدوات للوله والعشق يقوده للانتماء إلى مجموعات تؤمن بقيم استخدامها.

كلمة أخيرة: من الخطر أن تتشوه صورة الأب في نظر أبنائه لأنه المرادف للسلطة، فإذا تشتتت حياة الأبناء نتيجة لتفكك أسري أو صراعات عائلية مستمرة، فالاحتمال الأكبر أن يتحولوا بغضبهم إلى شحنة غضب مصوّبة نحو والديهم (السلطة الأولى) والمجتمع (السلطة التالية) أو الحكومة (محاوله لقهر الخوف القديم من مهاجمة السلطة الأولى)، فتتكون مرحلة فاصلة في حياة الإنسان.

كلمة بعد الأخيرة: ليست العبرة في ضخامة «التطورات»، ولكن في مرونة التعامل مع التقدم بعقلية حيوية منفتحة على الإنجاز، فالبناء يبدأ بفكرة، والإرهاب يبدأ بفكرة... أيضاً.