العربيزي: صحوة أم عولمة

TT

إنها حقا لظاهرة تستحق التوقف عندها ورصدها، إن لم يكن من منطلق ثقافي ـ حضاري، فعلى الأقل من منطلق لغوي بحت. فالشباب العرب الذين ولدوا منتصف الثمانينات من القرن الماضي وما بعدها، وخصوصا من نال تعليما حديثا فيه جرعة من اللغة الانجليزية، يتكلمون اليوم لغة هي خليط من العربية والإنجليزية، فلا تكاد تخلو جملة من حديثهم من دون أن يتخللها كلمة أو أكثر من اللغة الانجليزية، وهذه الظاهرة تبدو غير مرتبطة بطبقة اجتماعية أو حتى بالتظاهر بـ«التحضر والغربنة» (نسبة إلى الغرب)، ولقد لاحظت ذلك في عملي طيلة سنين كأستاذ لمادة اللغويات باللغة الانجليزية. كما أنها ليست مرتبطة بتوجهات فكرية معينة، فلقد رأيت الشباب بتوجهات دينية ومدنية فكرية يمارسون هذا الخلط اللغوي بشكل تلقائي لا تكلف ولا تمثيل فيه.

وقد يرى المراقب أن التدفق الحضاري والثقافي للغة الإنجليزية من نوافذ لا حصر لها ـ تعليمية وإعلامية ومهنية وثقافية وغيرها ـ هي السبب الأساس في هذا المزج اللغوي بين العربية والإنجليزية، فيما يسمى بظاهرة «العربيزي» وهو مصلح سُك من كلمتي العربي + الانجليزي.

وهناك بعض يرى أن سبب الظاهرة التهاون باستعمال الكلمات والألفاظ الأجنبية، وعدم رفضها حفاظا على لغتنا، ويسوقون مثلا باليابانيين والألمان والفرنسيين الذين يتحاشون الكلام بغير لغتهم. ويضيف هذا الفريق أن التهاون اللغوي انعكاس لانحطاط الأمة، وابتعادها عن دينها وعن لغتها الجميلة التي كرمها الله سبحانه وتعالى بتنزيل القرآن الكريم بها.

هذا التهاون يرى فيه البعض تسامحا لغويا، يعكس طبيعة كامنة للتسامح لم يصل إليها اليابانيون والألمان والفرنسيون، بينما يرى بعض آخر في هذه الظاهرة تعبيرا عن حالة رفض للموروث، وثورة ضد كل ما هو قائم، لا بل إنه انعكاس للجفاف الحضاري الذي يقدمه اليوم الناطقون بلغة الضاد. أي أن اليابانيين والألمان والفرنسيين يقدمون للحضارة الإنسانية اليوم ما يجعلهم يفخرون بلغتهم، بينما لا نقدم نحن سوى التغني بالماضي التليد، والتنطع اللغوي البليد.

وهناك فريق براغماتي يرى أن المسألة طبيعية جدا، وانه لا توجد لغة «نقية» تماما، وأن الاقتراض اللغوي من الآخرين مرتبط بما نستجلبه منهم، وأن الآخرين سيقترضون منك لو أنهم جلبوا مخترعاتك ومنتوجاتك وصناعاتك، لكن أن تستورد كل شيء من الآخرين، وتستهجن أن تستورد كلامهم، فهذا مخالف لمنطق التواصل مع الآخر والتأثر به والتأثير فيه.

الجديد في ظاهرة العربيزي حقا هو انتقالها من المنطوق إلى المكتوب، فكتابة العربية بالأحرف اللاتينية ظاهرة لم تعد تخفى على أحد، نراها في المنتديات الالكترونية، وفي التراسل الالكتروني وفي arrasaa2il attilfizyonyah (الرسائل التلفزيونية مثلما تكتب بالعربيزية). وأصبح استخدامها تلقائيا وبدون تفكير، ترسل لأحدهم رسالة بالأحرف العربية، فيرد عليك بالعربيزية، حتى التهاني والدعوات aSba7at tuktab bil3arabeezy (أصبحت تكتب بالعربيزي)، والترجمة هنا يقصد بها إعطاء القارئ الكريم ـ وبالذات من ولد قبل الثمانينات مثلي ـ فكرة عن هذه الظاهرة التي ليست محصورة، والمتسارعة الوتيرة وبشكل يبدو من المستحيل وقفها.

العربيزي من مظاهر انحطاط الأمة طبقا للصحوويين ـ أي القائلين بأننا نشهد صحوة إسلامية، سوف تعيد أمجادنا الأندلسية وامبراطوريتنا المنسية.

لكن خصوم الصحويين يرون أن العربيزية مظهر من مظاهر العولمة، التي وفرت ملجأ يائسا لجيل يعيش قهرا فكريا وتخلفا حضاريا، وأن العولمة وفرت هذا الملاذ الذي يفرض ضرائبه، ولعل واحدا من أقسى هذه الضرائب وأعلاها قيمة هو الضريبة اللغوية التي نشهدها في ظاهرة العربيزي والقادم أخطر. فلا صحوة ولا هم يحزنون، بل غفوة وشخير استمر عقودا، بينما العالم يتسارع نحو العولمة ونحن نائمون، وهذا الجيل الجديد يحاول اللحاق بالآخر ولو قدم بنت عدنان الجميلة قربانا.