الاعتدال.. رغم «راند»!

TT

سؤال: هل من مصلحة الشعوب العربية والإسلامية محاربة القاعدة، وتيارات الأصولية العسكرية؟

سؤال آخر: هل من مصلحة أمريكا، الآن، محاربة نفس هذه التيارات؟

جواب: نعم، ونعم!

ما دعاني لطرح هذه الأسئلة «الأولية»، والبدهية، هي هذه الضجة الحالية «الموجهة» التي يثيرها بعض خصوم الاعتدال في العالم العربي، ضد أي صوت تجديدي أو معتدل وتنويري، بحجة أن أمريكا تحارب نفس من تحاربون، والدليل، تقرير أصدرته مؤسسة «راند» الأمريكية للأبحاث والدراسات في (مارس 2007) بعنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة).

خلاصة هذا التقرير هو أن أمريكا في تدخلها الكبير في منطقة الشرق الأوسط، وما نتج عن هذا التدخل السياسي والعسكري من مفاعيل لا نعلم نهايتها، إنما هي تخوض في الحقيقة «حرب أفكار» وإنها من اجل أن تكسب المعركة بشكل جوهري، فيجب عليها أن تنازل الخصم، وهو هنا الأصولية المنتجة للأفكار المعادية، محاربتها في ميدان آخر، غير ميدان الدبابات والمدافع: ميدان الحرب الفكرية.

والتقرير، الذي كتبه مجموعة من الباحثين، واضح في تحديد الخصم الفكري، وهو التيار الأصولي الذي يقاوم التحديث والتمدين، عسكريا كان أو غير عسكري، التيار الذي يجذر فكرة المواجهة الدينية مع الغرب، تحت عنوان الحرب الصليبية، ويبحث عن كل السبل الممكنة لتجسيد الحلم الأصولي في شكل المجتمع والدولة.

ومن اجل كسب حرب الأفكار، كما يخلص التقرير، فيجب على أمريكا أن تدعم الاعتدال في العالم المسلم، وان تسهم في بناء شبكات اعتدال، وان تكون صارمة في تحديد من تدعم ومن تحارب، ولا تتهاون في معايير الاعتدال (الباحث د. باسم خفاجي أشار في مطالعته الموسعة للتقرير إلى جملة من هذه المعايير التي حددها تقرير راند، تتعلق بالموقف من المرأة والموقف من الأقليات غير المسلمة، والموقف من العنف (الجهاد) والموقف من فكرة تطبيق الشريعة..).

وتم، وفقا لهذا التقرير تصنيف المعتدلين إلى: مسلمين تقليديين، ومسلمين صوفيين، ومسلمين ليبراليين ـ على نوعين: من في السلطة ومن هم من دعاة المجتمع المدني.

وهكذا، يمضي التقرير، وفقا لمفاهيم ومعايير مرجعيات كتابه.

هذا التقرير ليس الأول ولن يكون الأخير الذي يقدم من قبل مراكز الأبحاث وخزانات التفكير الأمريكية، فهناك عشرات الأبحاث ستقدم من هذه المؤسسة وغيرها، وفي النهاية هي لا تملك سلطة القرار، ولكنها جزء من تفاعلات صنع القرار في أمريكا وبناء حالة الضغط في اتجاه معين.

وبصرف النظر عن «يمينية» هذه المؤسسة التي أشار اليها بعض المراقبين، أو الأدوار الكبرى التي ألصقها بهذه المؤسسة البعض، فإن مؤسسة راند هي خزان من «خزانات التفكير» في أمريكا التي يصل عددها حسب بعض الأرقام إلى حوالي 1500 مركز ومعهد.

ومن المؤكد أن هناك توجهات سياسية مختلفة بين هذه المراكز، فهناك وقف «كارنيجي» للسلام، وهي مؤسسة كبيرة أيضا ذات توجه مختلف عن توجه راند.

غير أن المفيد في هذا الحديث كله، هو أن مراكز الأبحاث في أمريكا، لا تكف عن التفكير والبحث عن الحلول وتقديم التصورات أمام صانع القرار والرأي العام أيضا، وهم بطبيعة الحال ينظرون لأي مسألة من المنظور الأمريكي، هذا شأنهم، لكن المشكلة في نظري تكمن في الانتهازية السياسية التي يقرأ بها البعض عندنا مثل هذه التقارير.

هناك أزمة ثقة بين التيار الإسلامي والتيار المخاصم له، هذه الخصومة لم تقتصر على الليبراليين أو العلمانيين بشكل عام، بل امتدت إلى بعض أبناء التيار الإسلامي نفسه ممن يقدمون أطروحات واجتهادات مختلفة عن السائد و«المتن» العام.

في غمرة هذه الضجة التي أثارها بعض الذين اشتركوا في «حفلة» تقرير راند، كان مما يستوقف العاقل، هو خلاصة خطيرة يريد «الرانديون» تثبيتها، وهي أن كل دعاة الاعتدال في العالم الإسلامي ما هم إلا أدوات في يد الأمريكان، إن لم يكونوا عملاء بشكل صريح، وربما يقبضون رواتبهم من السفارة الأمريكية، ربما، وفي أحسن الأحوال فإن بعضهم سذج يتم خداعهم بسهولة، على يد أشخاص مثل كتبة تقرير راند.

هكذا، وفي لحظة حنق على المخالف، يتم شطبه وإعدام شرعيته، بالاستناد إلى تقرير من عشرات التقارير، أصدره مركز، من عشرات المراكز في أمريكا.

وربما يقبل هذا السلوك في سياق المناكفة والتشويش على الخصم، أقول ربما يقبل في هذا الإطار، لأنه إذا ما هدأ الغبار فسرعان ما ستتبين الرؤية وتتضح معالم المكان، ولكن الأمر إذا تجاوز إطار التشويش إلى التصديق والإيمان، فهنا نصبح أمام مشكلة حقيقية، مشكلة تتصل بمستقبل المسلمين والعرب، فلا مستقبل والاعتدال محكوم بالإعدام.

لأمريكا مصالحها، وإذا كانت بالأمس تحالفت مع «المجاهدين» الأفغان ضد الملحد الشيوعي الروسي، فها هي اليوم تحارب التيار الجهادي وتلاحق حكمتيار في أفغانستان، فهل يرضى اسلاميو اليوم ممن فرحوا بتقرير راند أن يقال لهم، إن جهادهم بالأمس لم يكن إلا تنفيذا لمخططات أمريكا، وان من دعم بالأمس حركة الجهاد الأفغاني، او قام خطيبا في مسجده يجمع التبرعات لهم، ويحض الشباب على الاشتراك في هذا الجهاد، ليس إلا عميلا لأمريكا ومنفذا لمخططاتها، عالما، أو مخدوعا!

طبعا لا، وكل منصف يقول: لا، فشباب العرب الذين شاركوا في القتال الأفغاني ضد المعسكر الشرقي كانوا صادقين، والأفغان كانوا يعتقدون أنهم يقومون بتحرير بلدهم من هيمنة الروس والنظام الموالي له في كابل، ولكنهم في نهاية الأمر كانوا يؤدون خدمة عظمى لأمريكا في ضرب الدب الروسي ومنعه من التمدد إلى مناطق مصالح بالنسبة لأمريكا.

إذا قيل ذلك، وتم التذكير بتحالف أمريكا مع الأفغان والمجاهدين وكل من دعمهم ضد الروس، يقال، وبغضب، إن ذلك ليس إلا التقاء مصالح عابرا!

حسنا ! لا غبار على هذا الكلام وهو صحيح، لكن ما الذي يجعل الأمر الآن ليس من هذا القبيل؟! ولا أقول انه التقاء مصالح بالمعنى الصرف الآن، ولكن ربما كان من حسن الحظ أن يكون الاعتدال والتنوير والتجديد عند المسلمين، هو مما ترى أمريكا أنه يوافق مصلحتها «الآن»، كما كان من حسن الحظ بالأمس بالنسبة للمجاهدين والإسلاميين ان تتوافق مصلحتهم مع أمريكا ضد الاتحاد السوفيتي.

على أن كل هذا الكلام، الجدلي، إنما يقال من قبيل الجدل فقط، وإلا فإن دعاة الاعتدال وتجديد الإسلام وتحرير المرأة وتحقيق الدولة الرشيدة الحديثة، وإطلاق العقل في العالم المسلم، والتخلص من حمولات التاريخ وصراعاته القديمة... كل ذلك طالب به ودافع عنه تيار عريض من علماء ومثقفين وسياسيين مسلمين منذ أزيد من قرن، قبل أن يوجد شيء اسمه: معهد راند.

بل أكثر من ذلك، هل يعتبر شيوخ مثل القرضاوي، وهو من هو في كرهه لأمريكا، يعتبر مطبقا لأجندة راند؟ فالقرضاوي يختط خطا مخالفا للطرح الفقهي المتزمت فيما يتصل بالمرأة وحقوقها السياسية وزيها. وقبل القرضاوي شيخ الأزهر شلتوت، وغيره، وغيره. وهل كان الشيخ علي عبد الرازق وهو يخلص فكرة الدولة من استغلال السياسيين الديني، في كتابه الشهير «الاسلام واصول الحكم» هل كان ينفذ أجندة راند؟ وهل كان حفيد حسن البنا الدكتور طارق رمضان وهو يدعو إلى مفهوم جديد لتطبيق الشريعة وينادي بـ«تعليق» العمل بالعقوبات الجسدية في الإسلام، ينفذ أجندة أمريكية وهو الذي منع من دخول أمريكا أكثر من مرة بحجة انه متطرف خفي؟! وبالمناسبة: هل تعتبر دعوة الداعية «الحديث» عمرو خالد لزيارة أمريكا مؤخرا بعدما اختير من شخصيات العام، هل تعتبر جزءا من توصيات راند؟!

هذه العقلية التبسيطية التي تريد «اغتيال الاعتدال» بحجة التوافق مع كلام راند، هي عقلية، فوق كونها تبسيطية، إلا أنها عدوانية، وهي في سعيها المحموم لتشويه الاعتدال ودعاته وقضاياه، كمن يجدع أنفه ليغيظ خصمه!

وبكل حال فإن السياسة لها منطق غير منطق هؤلاء، وأمريكا تسعى جاهدة لتجريب كل الأفكار التي تحقق لها مصالحها في المنطقة العربية والإسلامية، بما في ذلك تجريب الحوار مع الأحزاب الإسلامية، خصوصا أن بعض الإسلاميين فاجأ الأمريكان في مدى مرونته السياسية، مثل الحزب الإسلامي «الاخواني» في العراق الذي شارك في العملية السياسية «الأمريكية»، ولم يصبح سرا حديث العلاقات بين أمريكا والإخوان في مصر وغير مصر، بل إن حد قياديي الإخوان في الخليج قال لي صراحة: نعم لدينا تواصل وحوار مع الأمريكان.

فهل هؤلاء الاسلاميون خونة؟! وهل هم منفذون، شعروا او لم يشعروا، لهذه الاجندة الامريكية التي تريد «بناء شبكات اعتدال اسلامي؟!».

صفوة القول إنه من السهل تشويه المخالف، ومن السهل دغدغة المشاعر العامة، ولكن من الصعب، كل الصعوبة، بناء اعتدال اسلامي داخلي، لأن ذلك يعني مواجهة تراث عريض من الجمود، ومصالح بنيت على هذا الجمود، وأجيال أقنعت أن هذا الجمود هو الإسلام، وخلف هذا كله: نفوس متربصة، واستعداد عال للتخوين والنبذ، والضحية في هذا كله: الاعتدال.

لتقل راند ما تشاء، وليستشهد بتقريرها من شاء، وليلقي حجارة التشويه من يلقي، ففي النهاية هناك سؤال لا مفر منه، وخيار واضح: الاعتدال والتنوير، أو الفناء والدمار، تلك هي الحقيقة الساطعة.

[email protected]