أوروبا ترفض حمل تركيا جنينا

TT

خلال المواجهة التلفزيونية التي تمّت قبيل التصريح بنتائج الانتخابات الفرنسية الرئاسية بين المترشحين نيكولا ساركوزي وسيغولين روايال، تحدّث ساركوزي عن موقفه الرافض لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، الذي لا يجب أن تتاخم حدوده بلدانا مثل العراق وسوريا، مستندا في رفضه القطعي على معطى جغرافي، يتمثّل في أنّ معظم الجغرافيا التركية تقع في آسيا )97 % من الأراضي(.

وبما أنّ صناديق الاقتراع فضلت ساركوزي رئيسا لفرنسا الدولة البارزة في الاتحاد الأوروبي، فإن فوزه يعني أن رفضه انضمام تركيا للنادي الأوروبي سيكون من الثوابت، التي ستدافع عنها السياسة الفرنسية. والغريب في هكذا موقف أنه يمثل تراجعا إلى الوراء على اعتبار أن الموقف الأوروبي من مسألة انضمام تركيا قد تخطى مرحلة الرفض إلى مرحلة أخرى أكثر جدلية وإيجابية، يمكن أن تسمى بمرحلة القبول المشروط وإلى حين.

فهل أن حالة المدّ والجزر هذه، دليل لخبطة سياسية داخل مؤسّسة الاتحاد الأوروبي وتعكس عدم القدرة على اتخاذ موقف موحّد من المسألة التركية أم أن دول الاتحاد الأوروبي حاسمة أمرها ولكن بشكل غير معلن، تفضحه أحيانا تصريحات في غير سياقها المباشر؟

إنّ العارفين بآليات التفكير الأوروبي داخل تركيا يدركون بشكل لا ترتقي إليه أبسط مظاهر الشكّ، بأنه يستحيل على تركيا الانضمام إلى النادي الأوروبي المسيحي ولو قفزت بعبقرية فذّة على كل العقبات التي تقف أمامها.

ويفهم القبول الأوروبي المبدئي والمشروط بأنه مغلّف بشيء من الحرج وبكثير من المناورة!

حرج نابع من طبيعة الخطاب الأوروبي العلماني المعلن والذي يتبرأ من أيّ تأثير ديني في صياغة مواقفه، إذ أن الاتحاد المتكوّن من دول مسيحية يصعب عليه هضم والتعاطي بحيادية مع دولة يمثل المسلمون 97%من سكانها ويحكمها حزب يحمل خلفية إسلامية بالإضافة إلى وجود أحزاب أخرى متغلغلة داخل المجتمع التركي مثل أحزاب «السعادة» و«الاتحاد الكبير» و«الحركة القومية».

ولكن الاتحاد الأوروبي في ذات الوقت لا يستطيع إنكار أهمية تركيا كدولة إقليمية في منطقة حساسة، لذلك فإنه يمكن اعتبار إعلانه القبول بترشح تركيا بعد رفض طال ثلاثة عقود، مناورة تهدف إلى مواجهة الأطماع الأمريكية في المنطقة الشرق أوسطية ودور تركيا في تحقيق تلك الأطماع. فيصبح القبول الأوروبي محاولة لإغواء تركيا وآلية جذب، كي لا تحول وجهتها كاملة نحو الولايات المتحدة، التي تدعم مؤسّستها العسكرية وتقدم لها المعونات الاقتصادية.

وبمزيد النظر في عدّة معطيات تخصّ الحالة التركية، سنجد أن أسلوب المناورة من الجانب الأوروبي والتعجيز خاصة في القضية القبرصية لن يكونا طويلي الأمد، على اعتبار أنّ المسكوت عنه في التردّد الأوروبي من مسألة انضمام تركيا للاتحاد ثقيل الوزن والدلالة. وبلفت النظر عن الأزمة داخل تركيا والتي أظهرت أن الجيش لا يزال يملك أدوات الضغط عبر مؤسسات أخرى، وكذلك الانشطار المجتمعي الذي تظهره وسائل الإعلام بين دعوتين الأولى علمانية والأخرى إسلامية، فإنّ أوروبا لا تستطيع أن تغض الطرف عن غيوم تراها داكنة وتكتفي بالرهان على مجموعات القوى العلمانية التركية وعلى تلك الخطوات التي قطعتها النخبة السياسية الحاكمة في مسيرة الإصلاح.

فإذا استطاعت تركيا أن تجعل من ملف حقوق الإنسان في بلادها نظيفا، ونفذت الشروط التعجيزية والمستحيلة المتعلقة بالمسألة الكردية والقضية القبرصية وقضت على ديكتاتورية المؤسّسة العسكرية وتحكمها في المؤسّسات الأخرى الصانعة للقرارات بجميع أصنافها، فإنّ الاتحاد الأوروبي في المقابل غير قادر إطلاقا على تجاوز عدة حقائق على رأسها ما تسميه أوروبا بالخطر الإسلامي، والذي تحاول التصدي له بشتى الطرق، فكيف تنطلي عليها قيم الانفتاح الثقافي وتجعلها تتورّط في انضمام بلد يبلغ مجموع سكانه حوالي السبعين مليونا، وهو عدد مرشح للتضخم، حيث تقول التوقّعات الديمغرافية أنه سيصل عام 2025 إلى 92 مليون نسمة.

فإذا كانت فرنسا منذ سنوات وهي تعلن رعبها من تضخم حجم الجالية الإسلامية في بلادها، التي ترفع شعار التعدد الثقافي، وبصدد اتباع سياسة انتقائية صارمة في ملف الهجرة، فكيف سيكون حال أوروبا وهي تضم إلى اتحادها 92 مليون نسمة، تبلغ نسبة المسلمين منهم 97 %، بالإضافة إلى ما سينتج عن ذلك من دعم وتقوية لجاليات الأقليات الإسلامية المنتشرة في كافة اتحاد دول الاتحاد الأوروبي؟

ويمكننا أن نتذكر في هذا السياق بماذا أجاب ميتران الحسن الثاني عندما طلب منه الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حيث قال له بكل صراحة ووضوح إنه يستحيل قبول بلد مسلم في الاتحاد.

إنّ العالم الغربي اليوم، بما فيه أوروبا، أصبح يتعاطى مع الإسلام والمسلمين ليس من الباب الحضاري أو الثقافي الديني، بل من زاوية يعتبرها مقدسة وهي مسألة الأمن القومي ومسألة الثوابت العلمانية السائدة في مؤسّساته ونمط الحياة.

لذلك فإنه رغم تعدد المعوقات أمام تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي يمثل حلما كبيرا، فإن العائق الأكبر يكمن في علاقة تركيا الوطيدة بالإسلام، وليس فقط في المخاوف الاقتصادية، حيث تخشى السوق الأوروبية من الخسارة التي قد يسببها تدفق المنتجات التركية إلى أسواق دول الاتحاد، نظرا إلى أثمانها الرخيصة مقارنة بأسعار المنتجات الأوروبية.

ولكن رغم ما تتضمنه فرضية أن اتحاد أوروبا يرفض انضمام تركيا وأن قبوله المشروط ليس أكثر من حيلة ظرفية استوجبتها تكتيكات استراتيجية دولية، فإنّ من المؤكد أن تركيا حتى ولو لم تحقق حلمها الأوروبي، فإنها ستكون رابحة ومستفيدة على كافة الأصعدة، ذلك أن قرار الاتحاد قبول انضمامها بعد تلبية قائمة طويلة وصعبة من الشروط، قد شكل حافزا وذريعة لدى النخبة السياسية الحاكمة في تركيا كي ترفع من سقف الإصلاحات المبرمجة، أي أنه ورقة تستثمرها النخبة الحاكمة لتذكي بها الطموح المجتمعي إلى «الأوربة»، مما سيجعل عملية الإصلاح والتخلص من انتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير، تتم في أسرع وقت ممكن، الشيء الذي سيزيد من قوة تركيا وبالتالي سيجعل من دورها كدولة إقليمية أكبر وأكثر نموذجية.

فهل شهد التاريخ ضحكا على الذقون مثمرا وإيجابيا، كضحك أوروبا على ذقون الأتراك؟!

[email protected]