السعودية والدعوة إلى قاضي التوقيف

TT

ناقش مجلس الشورى في المملكة أخيرا مشروع نظامي القضاء وديوان المظالم. وكم أتمنى أن تشغل مسألة الإشراف القضائي على أعمال السلطات المختصة بالتحقيق الجنائي بالمملكة حيزا كبيرا من المناقشات. فقد منحت السلطة التنظيمية في المملكة لهيئة التحقيق والادعاء العام سلطتي التحقيق والاتهام، بالإضافة إلى اختصاصها في الإشراف على تنفيذ الأحكام، والرقابة على السجون ودور التوقيف. وحرصت السلطة التنظيمية على تمتع الهيئة بضمانات تحمي استقلال أعضائها، وتمنع خضوعهم فيما يباشرون من أعمال لأي سلطة إلا سلطة أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة السائدة في المملكة، وقصرت ارتباطهم بوزارة الداخلية على المتابعة والإشراف. وتظهر السوابق العملية اتسام رجال الهيئة في المملكة بالعدالة والنزاهة والحيادية واتباع الإجراءات النظامية أثناء التحقيق، والتزامهم بمعايير أخلاقية عالية.

إلا أن سلطة الهيئة لا تقف عند حد الجمع بين سلطتي التحقيق والادعاء العام، بل تمتد سلطتها لتشمل بعض الحقوق والحريات الأساسية كإصدار أوامر الحبس الاحتياطي، والتفتيش وضبط الرسائل، ومراقبة المحادثات الهاتفية.. وعلى الرغم من إحاطة السلطة التنظيمية هذا الاختصاص بعدة ضمانات وعقوبات رادعة عند مخالفة الأنظمة لتوفير الإشراف والرقابة على أعمال التحقيق، إلا أن اتساع دائرة السلطات الممنوحة للهيئة لتشمل بعض الحقوق والحريات الأساسية للمتهم قد يزيد من خطر التعسف في استعمال هذه السلطة سواء كان ناتجا عن خطأ غير مقصود، أو بقصد الافتئات على الحقوق والحريات الشخصية، أو عن حماس مفرط لكشف الجرائم والحفاظ على الأمن.

وعلى الرغم من المزايا العملية للجمع بين هذه السلطات كتبسيط الإجراءات وضمان سرعة إنهائها، إلا أن الاتجاه التشريعي الدولي السائد هو الفصل بين سلطتي التحقيق والادعاء العام، وتوفير الإشراف والرقابة القضائية على بعض إجراءات التحقيق، وذلك لأن الجمع بينهما يضع الجهة التي تباشر هذه السلطات موضع الخصم والحكم لا موضع الباحث عن الحقيقة سواء تعلقت هذه الحقيقة بإدانة المتهم أو براءته أو التحري في انتهاكات صدرت عن الجهة ذاتها. أضف إلى ذلك أن أعضاء الهيئة كالمحقق أو غيره ممن اشترك في التحقيق قد يمثلون الهيئة في الادعاء العام أو التمييز أمام المحكمة، الأمر الذي يضع الهيئة موضع الخصم. ومنح الخصم تلك الصلاحيات الواسعة يتنافى مع استقلالية وعدالة التحقيق. وقد تأثرت السلطة التنظيمية في المملكة بمسألة الجمع بين السلطات بعدد من التشريعات في دول الجوار والتي باتت لا تواكب التطور في الأنظمة الإجرائية الدولية. إلا أن المناداة حاليا بالفصل بين السلطتين تتطلب إعادة هيكلة نظام العدالة الجنائية في المملكة، الأمر الذي قد يتطلب الجهد والوقت نظرا لتعدد السلطات المختصة بالتحقيق الجنائي وتنوع اختصاصاتها بتنوع الجريمة.

فالحل هو فيما قامت به التشريعات الجنائية الإجرائية الحديثة حيث أسندت للقضاء سلطة إصدار قرارات الحبس الاحتياطي والتفتيش، وضبط الخطابات والرسائل البريدية، ومراقبة المحادثات الهاتفية وذلك بغرض صيانة الحرية الشخصية للمواطنين (سواء تم الفصل بين سلطتي التحقيق والادعاء العام أو لم يتم).

وهذا يدعوني إلى دعوة السلطة التنظيمية في المملكة إلى دراسة إيجاد وظيفة قاضي التوقيف والحريات في المحاكم السعودية ليتولى تدريجيا الإشراف القضائي على بعض إجراءات التحقيق التي تتخذها الهيئة وأهمها قرار التوقيف الاحتياطي. فقرارات التوقيف الاحتياطي قبل إحالة المتهم إلى القضاء هي من اختصاص الهيئة (من المحقق ومرورا برئيس فرع الهيئة إلى رئيس هيئة التحقيق)، ومحددة بمدة أو مدد متعاقبة قد تصل في مجموعها إلى ستة أشهر. فالأجدر أن لا تتجاوز سلطة الهيئة في إصدار أوامر التوقيف مدة الثماني والأربعين ساعة الأولى من القبض، يكون طلب تمديد التوقيف الاحتياطي بعد انقضائها بيد قاضي التوقيف والحريات ليقوم بتقدير ما يحمله ملف التحقيق، وسماع أقوال المتهم أو شكواه والتحقق منها، ومراقبة تقدير المحقق لمدى كفاية الأدلة على ارتكاب المتهم جريمة من الجرائم التي يجوز فيها التوقيف الاحتياطي (الجرائم الكبيرة)، وتوفر المبررات التي تستوجب توقيفه وفقا لما تقتضيه مصلحة التحقيق (كمنع المتهم من الهرب أو التأثير على سير التحقيق)، ومراعاة الاجراءات المتخذة لحقوق المتهم وأمن المجتمع. وبعدها يصدر قراره إما بالإفراج المؤقت (بشروطه)، أو بالتوقيف الاحتياطي لمدة أو مدد متعاقبة. فتقليص سلطة الهيئة في إصدار أوامر التوقيف إلى ثماني وأربعين ساعة جدير بالدراسة. فقد أشارت دراسة دولية أجريت على نظم الإجراءات الجزائية في بعض الدول الغربية إلى أن أكثر الانتهاكات لحقوق المتهم تحدث في الأيام الأولى من التوقيف، وتقليص هذه السلطة وجعلها بيد القضاء يسهم في توفير ضمانات أكبر لحماية المتهم.

وهذا الإشراف القضائي يتماشى مع ما أوصت به العديد من الاتفاقات الدولية والإقليمية (كالمادة (53 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 1950، والمؤتمرات الدولية (كالتوصية الثانية من توصيات مؤتمر روما لعام 1953)، بضرورة إسناد قرار التوقيف الاحتياطي إلى السلطة القضائية (كالقاضي الجزئي) لضمان حماية حرية المتهم. وقد قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في قضية ضد سويسرا في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1990 وأخرى ضد بولندا في يوليو (تموز) عام 2000 بأن المحققين والمدعين الحكوميين لا يستوفون معايير المادة (53 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والتي تنص على مثول المقبوض عليه فورا أمام «القاضي أو أي موظف آخر مخول قانونا بممارسة سلطة قضائية...»، وذلك لأن المحقق أو المدعي العام يجمع بين سلطة إصدار أوامر التوقيف الاحتياطي وسلطة توجيه الاتهام وتمثيل الادعاء العام أمام المحكمة. وهذا يجعله خصما وهو الأمر الذي يضع استقلاليته وعدالته موضع شك. وقد أسهمت هذه الاتفاقيات والأحكام في تطور نظم الإجراءات الجزائية في دول أوروبا كفرنسا التي منحت قاضي التوقيف والحريات سلطة إصدار هذه القرارات ليكون للسلطة القضائية واجب الاشراف على احترام السلطات المعنية للضمانات المرتبطة بحقوق الإنسان.

إن المملكة حريصة على أن يواكب نظامها للإجراءات الجنائية أحدث الأنظمة الإجرائية وأكثرها تقدما في العالم بالقدر الذي لا يتعارض مع روح الشريعة الإسلامية ومرونتها واستيعابها لأي مصلحة. لذا أتمنى أن تضع السلطة التنظيمية في المملكة مسألة إيجاد وظيفة قاضي التوقيف والحريات إلى جانب هيئة التحقيق والادعاء العام موضع دراسة ليتمكن القضاء من مباشرة دور فعال في حماية الحريات التي نص عليها النظام الأساسي للحكم، وضمان الحقوق الفردية للمتهم.

* خبير سعودي في القانون الجنائي وزميل في معهد سياسة الأمن القومي في جامعة جورج واشنطن

[email protected]