أوجه تشابه

TT

بين المشاكل السياسية المستعصية في العالم كان ملف ايرلندا الشمالية يصنف على انه واحد من اكثرها تعقيدا وصعوبة بسبب خلفياته التاريخية وتراكمات عقود من العنف بين طرفي الصراع الرئيسيين، والانقسام العميق في المجتمع وفي الحياة السياسية والذي اخذ غطاء طائفيا (البروتستانت يريديون البقاء مع بريطانيا والكاثوليك يريدون الوحدة مع ايرلندا)، وكذلك 3 عقود تقريبا من العنف الدموي ذهب ضحيتها اكثر من 3 الاف ضحية وامتدت اثارها الى قلب الاراضي البريطانية مع التفجيرات التي كان ينفذها الجيش الجمهوري الايرلندي او تنظيمات اخرى منشقة عنه.

ونتيجة صعوبة هذا الملف الذي اخذ سنوات طويلة من العمل السياسي والدبلوماسي وشهد في احيان كثيرة تصاعدا في امال السلام، واحباطات بعد اصطدام هذه الامال بالخلافات على أرض الواقع كان كثيرون يشبهون هذا الملف في صعوبة حله بالصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي الذي هو ايضا يحمل معه ارثا طويلا من الخلفيات التاريخية، والصراع الدموي، والكثير من الاخفاقات لأصحاب المبادرات السياسية والوسطاء الذي سعوا الى وضع حلول نهائية او على الاقل وضع الطرفين على مسار حل نهائي.

ومن مفارقات بعض اوجه التشابه في الملفين ان الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون، الذي حاول في ولايته الثانية وفشل في ان يدخل التاريخ باعتباره الرئيس الذي استطاع الوصول الى حل نهائي للقضية الفلسطينية، وأوصل الآمال الى ذروتها بلقاء كامب ديفيد بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق إيهود باراك قبل ان ينقلب كل شيء بعد انفضاض الاجتماعات بدون اتفاق، كان منخرطا في نفس الفترة تقريبا في الوساطة في عملية السلام في ايرلندا الشمالية، مع نتائج قليلة ايضا وعثرات واجهتها المسيرة هناك ايضا.

وبين التسعينات والعقد الاول من القرن الواحد والعشرين اخذ كل ملف مسارا مختلفا، فقد استطاع ملف ايرلندا الشمالية ان يتجاوز عقده المستعصية، ويحافظ على الاتفاق بعدم الاحتكام للسلاح رغم التراشق الذي استمر بين السياسيين حتى وصل في النهاية الى اتفاق تقاسم السلطة الذي توج في النهاية هذا الشهر بتشكيل حكومة لإدارة الاقليم يتشارك فيها اعداء الماضي في بناء المستقبل.

الملف الفلسطيني اخذ مسارا عكسيا، فبعد فورة الآمال في التسعينات اتجه الوضع من تدهور الى تدهور، وازدادت مساحة الشك وعدم الثقة، والاحتكام للسلاح لنصل الى وضع حالي، المناخ العام فيه يشيع اليأس والإحباط حتى من الاقتراب من مسار حقيقي يوصل الى حلول نهائية للنزاع.

فما الذي يفرق بين الملفين رغم صعوبتهما، وهل هناك دروس وعبر يمكن استخلاصها من ايرلندا الشمالية وتصلح للتطبيق هنا؟ بالتأكيد هناك فوارق كبيرة بين النزاعين من ناحية خلفيتيهما التاريخيتين رغم وجود اوجه تشابه، كما ان المطروح هنا ليس تقاسما للسلطة وهي فكرة ترفضها اسرائيل تماما وانما قيام دولتين تتعايشان مع بعضهما سلميا.

لكن الفرق الاساسي هو البيئة المحيطة بالنزاع، فملف الازمة في ايرلندا الشمالية كان يبدو غريبا عن محيطه الذي يعيش فيه وهو القارة الاوروبية التي تعلمت بعد حربين عالميتين سقط فيهما عشرات الملايين من القتلى كيف تتعايش وتعاون سلميا مع بعضها، وتمكنت من خلق ازدهار اقتصادي لشعوبها نتيجة لذلك، بينما البيئة المحيطة بالملف الفلسطيني غير مستقرة وتموج بالتوترات والانفجارات العنيفة التي تغذي بعضها بما في ذلك النزاع نفسه، وبما يجعل الترابط بين حل النزاع وحل مشاكل المنطقة شديد الارتباط.